عبد الرزاق بوتمزار

ح. 114

قـ@ـَالتْ.. الكتابة بين زمنَيْن

لا شكّ في أنكم قد لاحظتم فروقاً بين حلقات هذه الأوراق؛ منها أنّ الحلقاتُ الأولى أقصر من اللاحقة.. فقد كُتبتْ هذه اليوميات في فترتين مُتقاربتيْن؛ لكنْ باختلاف جوهري: حين كتبتُ الحلقات الأولى (في مرحلة إعداد الكتاب للنشر أضفتُ حلقة جعلتها الأولى بدل “الإجازة والعجازة”) كان ذلك بقلم وورقة. خطَطتُ عشرين حلقة، شطبتُ وعدّلتُ وشكّلتُ. ثم رقنتُ الكلمات، ذاتَ مساء، في ساعات ما بعد العمل الرسمية، وقدّمتُبها مُباشَرة لمدير النشر.

كنتُ أجلس إلى حاسوب وأشرع في النقر وحيدا في قاعة التّحرير؛ لا مُؤنسَ لي إلا أجهزة غافية في انتظار الصّباح المُوالي وكَراسٍ غادرها الجالسون. في صمت المكان كان يعود إليّ عزفُ الحُروف؛ يرتدّ صداها من صمت الجُدران. ورغم كلّ الجهد والسهر والتنقيح، كانت الهفوات وسقط سهوا كثيرُ أخطاء، والكاتب مُصحّح!

كنتُ محكوما بضيْق المجال المُخصَّص لليوميات في حيّز الصّفحة. فقد كان أقصى ما هو مسموحٌ بهثلاثمائة وخمسون (350) كلمة؛ وحين أصل سقف الأربعمائة (400) كلمة في إحدى الحلقات يبدأ مُسلسَل “النّگيرْ”، بدءاً من التقنيّ المسؤول عن تركيب الصّفحة؛ حتى لو لم يكنْ أكثرَ من “مُعدِّس” وجد نفسَه، بين ليل والضّحى تقنياً قد يصير، فجأةً، شخصاً مهمّا يقبل ويرفض! مرورا برئيس التّحرير، فمُدير النّشر.. لأجل تجنّب كلّ ذلك، وغيرِه كثير، كنتُ أحاول جاهداً أن تكون كلماتي مُختارَة بعناية. ورغم كلّ حرصي، وجدتُ نفسي مرارا مُطالـَبا بحذف فقرة أو فقرتين من النص الأصلي، بطلب من التقنيّ أو من رئيس التّحرير أو من غيرهما.

في بداية التحاقي، مجددا، بميدان كنتُ قد اعتزلتُه -عقب رحلة الجماهيرية- مدة عشرة أعوام كاملة؛ وجدتُ في انتظاري صفحة مكتوبة وقلما أحمر! فارقتُني أمام ورقة أبُثّها أشجانَ الحياة وألحانها، فإذا بي ألتقيني -بعدما ابْيضَّ الشَّعر منّي- أمام ورقة وقلم، مع اختلاف في تفاصيلَ صغيرة: الصّفحة سوداءُ مداداً والقلمُ أحمر. لسنا بكلّ السّوء الذي نتصور عليه أنفسَنا أحيانا..

بالعشرات هي الصفحات، لكنْ وقد لطخ المدادُ أليافَها. ما حاجتي إلى ورق مكتوب، أنا العطشانُ إلى بياض الصّفحة، أُفرِغ فيه السّواد!؟ ماذا أفعل جالساً، منذ ساعات الصّباح، إلى مكتب تناثرتْ على سطحه الأوراق، وقد اعتدتُ ألا أمتشق قلماً وأشاكسَ بياضاً إلا في المساء ومُتأخّر الليالي؛ وقد استبدّ بالأمكنة الهدوءُ وبعزلتي سوادُ الليل، يتراقصُ مِن حولي على انكساراتِ ضوء خافت لشمعة حزينة على الدّوام؟ (لماذا هي حزينة، دوما، الشّمعة رغم البياض؟! الشّمعة شفّافة وواقعية؛ لا يغُرّها كثيرُ الثناء، ولو من قبيل أنها تحترق كي تنيرَ الطريق للآخرين؛ وما إلى ذلك؛ الثابتُ لديها أنها تحترق وكفى، لذلك تتشابه الشّموع: كلها حزينة)..

كانتْ رابعتَنا في تلك الخُلوات البعيدة شمعة. شُموعٌ كثيرة، في الحقيقة، ذابتْ بعدد ليالي مسّ قديم بمُرافَقة قلم وورقة (يحضرُني اللحظةَ هذا المقطع، أترككم تستعيدونه معي إكراما للمخلوقة الشّمعة وألقاكم في الفقرة المُوالية):

“كتمتُ عن الكون أسرارَ عُزلتي وانقطاعي وبُحتُ لدمعْ الشّمعة بتفاصيل نكبتي والحيْرَة. أعلنتُ حربَ الصّمت ضدّ نقيق التافهين وشرعتُ في تعلم أولى حِكمِ الوُجود. كان الدّهرَ يمّاً والأفكارُ مرْكباً للإبحار نحو جزيرة الكمالْ.. وهذا الليل، عشقُ العظماء والحَيارى، كان مُنقذي من جُنون البشرِ في الأضواء. أفرد أوراقي وأؤطر وحْدتي برُباعيِّ البُؤسِ والألم، التّفاهةِ والندم، لأرسمَها لوحةً بلا أصباغ، تُجسّد تيهَ إنسان وعبثية وُجود. فيَا أيّها الليلُ السّاكنُ فينا أضئْ شعابَ الأفئدة وأسدِلْ ستائرَك على شوارع مدينة لا يروقني عرْيُها النهاريُّ فأسرق، تحت جُنحك، لحظات أهيمُ فيها على وجْهي، بَاحثاً عن مَعنى بديلٍ للحَياة!

وتستقبلُني عيناك، تُطوّقانني، تَأسَرانني، تقودان خطواتي فوق الحشائش الخضراء الندية، وتُحلّقان بي فوق الأشجار السّامقة الصموتة، وتسيران بي فوق أسوار المدينة العتيقة. ثم ترتفعان بي نحو نجوم السّماء المُتلألئة في أطراف الكون المُترامية، حيث تُشيّدان لي عشّا للحبّ، دفئاً، ووكرا للحُلم، وردياً، ووطنا للأمل، سَرابيّاً..

وتتوحّد ذرّات الكيان المُتشظّي بصمت الكون النّاعس، وتُؤلف نواميسُ الطبيعة السّرمدية، سمفونيةَ عشق أبدي.

فيا أيّها الليلُ الطويل لا تنجلِ!

فداك نهاراتي والعمرُ

واترك أسيرَ العشقِ يرنُو

ويشكو الكأسَ تجريحَ المُقَلِ.

لكن الصّبحَ لاح في الأفق “نذيرُه”، وعند مدخل المدينة، بدا شبح إنسان مهزوم”…

الدّراري.. الرّجُوعْ للهْ! أرى أنكم قد سرحتُم. دعُونا هُنا والآن، فهذا المقطع سبق أن قرأتموه! آه، القراءة الثانية تكون أمتع؛ أليس كذلك؟!.. الأمر مؤكد؛ لذلك قلتُ (سابقا أيضا) إنّ الوقت الذي أمضيتُ في “قراءة” هذه الأوراق قراءة ثانية (بل ثالثة ورابعة وعاشرة) وفي تشذيبها، بالحذف والإضافة والتقديم والتأخير، فاق بمراحلَ الوقتَ الذي تطلّبَت مني كتابتُها.

استعدتُ علاقة قديمة بالأوراق؛ بالكتابة والمكتوب. صرتُ مُراجعا لغويا، أحشُر أنفي وسط كلام وكلام، أشذّبُ وأضبط وأعيدُ تشريحَ المكتوب وفق المطلوب وما أسعفتْ به ذاكرة مخرومة لكثرة ما خزّنتْ من مكاتيب الأزمنة البعيدة.

الآن، هُنا، لا تطلق العنان لسليقتك (أو لـ”سلوقيتِك” في رواية أخرى). لا، دعْ عنكَ شخصياتك والمواقفَ والوجوه والحالات؛ مارسْ رقابتك على المكتوب أمامَك فقط؛ هذه وظيفتك الجديدة. تَسلّحْ بما علقَ في خزانة الدّماغ من قواعد الخليل وابن جني وابن إسحاق والدّؤلي والفراهيدي وسيبويهَ وتجديدات ابن مضاء، الإعرابيّة، ذاتَ قرطبة، ومن سبقوهم وتلَوهم من أعلام العربية. هاجِم المكتوبَ أمامك واجعله أقربَ ما يكون إلى مكتوبِ الضّاد. حتى لو وجدتَ أمامك نصّاً يأبى الانصياع ويعشقُ أنْ يشاكسك ويعاكس، امتشقْ أحْمرَ واسفِكْ دماءَ الكلام. ما رحِمتْك الكلماتُ؛ فلا ترحمِ من الكلام ما كتبوا.

نظرتُ حولي، فوجدتُ الجميع وقد استسلموا لإغراءات حرب صباحية على مكاتيبَ فيها الغثّ والسمين. انضممتُ إلى أجواء القصف واستسلمتُ، مثلهم، للذة مُمارسة دور الرّقيب على المكتوب. وعلى وقع أنغام فيروزية خفيفة وصوتِ انسياب القلم فوق الكلمات والجُمل أمامي، رحتُ أضحك مني حين خشيتُ أن أجدَني، في يومي الأول في عملي الجديد، “شارداً” بين الجمع وقد أشْكلَ عليّ الوضع ولا أستطيع مُجاراة لغة العصر بعد أن ابتعدتُ عشر سنوات ويزيد.. كمْ كان خيالي جامحا؛ ففي يومي الأول في عملي الجديد، لمْ أحتجْ إلى غير قلم أحمرَ! لقد سرحتْ “سلوقيّتي” مُوغِلة حين تخيّلتُ أنني سأجدُني أمام جهاز حاسوب، بل وتمنّيتُ أن يكون أسرعَ من الذي كنتُ أحرّر به العقودَ في ذلك الشّارع الخلفيّ، في مدينة جاحدة، ذاتَ كتابة عُمومية؛ لكنْ بعد عشر سنوات من الابتعاد عن التصحيح، عدتُ إليه واكتشفتُ أنه ما زال يُمارَس.. بقلم أحمر!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *