عبد الرزاق بوتمزار

ح. 113

عندما فتحْنا ورشاً..

 

بعد توقـّف نشر هذه اليوميات في “المساء” وتبلوُر فكرة جمعها في كتاب؛ ومُوازاةً مع تحريري الحلقات المُوالية، أنشأتُ لها “مواقعَ” في الأنترنت وشرعتُ في تدقيقها وتمحيصها. والحقيقة أنّ عملية المُراجَعة والتدقيق كلفتني جهدا ووقتا فاقَا بكثير ما تطلـّبَ منّي تحريرُها في صيغتها الأولى. ولا أخفيكم سرّا إذا قلت إنه، بفضل ما أتاحته لي من فُرَص الانفتاح، عبر شبكتها “العنكبوتية”، على مجموعة كبيرة من الأصدقاء والصّديقات المسكونين بهَمّ القراءة والكتابة والمسكونات، كان للأنترنت الفضلُ الأكبر في التّعريف بهذه اليوميات والتّرويج لها. لقد فتح لي هذا العالم الافتراضي بوابة مُشرَعة للتواصل والتّبادُل مع مُبدعين من كل الأجيال أغنوا التّجربة بملحوظاتهم وانتقاداتهم وتوجيهاتهم وحفّزوني على نشر هذا العمل، الذي خصّوه بحبّ وعناية لم أكن أتصور أن يحظى بهما يوماً. وبحكم أنّ الأنترنت عالَمٌ مفتوح على أزمنة الغد فقد تعرّفتُ أسماءَ شابّة مُبدعة، كلّ في مجاله، مُورس عليها نوعٌ من الإقصاء والتّهميش فوجدتْ في شبكة العنكبوت، ووجدتُ، ضالّتَنا: تحطيمَ الأصنام الـّتي توارثتْ، عنوةً، صناعة “الثقافة” التي تُريد ورعايتها وترويجَها..

والحقّ أنّي راهنتُ كثيرا على الأنترنت، خصوصا مواقع التّواصل الاجتماعي، من أجل التعريف باليوميات والحثّ على مُتابَعة حلقاتها، وكذا من أجل نفض الغبار الذي اعتلى اسمي في ذهن قرّائي المُفترَضين ممّن سبق لهم أن قرؤوا لي بعض القصص هنا وهناك، أو الذين تابعوا هذه اليوميات في الجريدة؛ وكذا لجذب انتباه قرّاء إضافيين مُحتمَلين..

وإذا كنتُ، وأنا أُحرّر الحلقات الأولى لهذه اليوميات، قد واجهتُ صعوبة البدايات، التي شكّلتْ دوماً تحدّيا حقيقيا بالنسبة إلي، فقد طرح إيجاد “القفلة” المُناسبة هاجساً أرّقني وشكّل لي مصدرَ قلق وانزعاج مدة طويلة. والحقّ أنّني كلما قلتُ لي إنّ هذه ستكون آخرَ قراءة لهذه الأوراق قبل إرسالها إلى المطبعة، وجدتُني مشدوداً إليها برابط قويّ لا أملك له تفسيراً. فأقرأ وأقرأ، ثمّ أعيد القراءة؛ حريصا على الإضافة والحذف والتسبيق والتأخير؛ وكأنّي لا أودّ الافتراق عنها أبدا وأؤجّل ذلك ما أمكن، مُوهماً نفسي بأنّني أضيف أو أنقح أو أمحّص. وربّما كان هذا السّببَ الحقيقي في تأخّري في نشر الكتاب؛ مَن يدري!؟

مهما يكن من أمر، فقد مرّت الآن خمسُ سنوات وأنا أصفّفُ الأحرُفَ وأدبّجُ الكلمات وأنسّق الجُمَل في أفق القبض على سيرة مُجازٍ ليس ككلّ المُعطّلين؛ مُتحيّناً الفرصة المُلائمة لتحقيق حلمِ الأبد: أن أُصدرَ كتابي الأوّل، الذي تأخّر أكثرَ ممّا ينبغي.

حين بدأتُ هذه السّيرة -أذكر- كتبتُ العشرينَ حلقة الأولى منها بقلم أحمر وجدتُه في محفظتي حين بحثتُ عن قلم للكتابة.. كنتُ أستعمل القلم في مراجعة صفحات بعض المَلاحق التي كنتُ آخذها معي للاشتغال عليها ليلا في البيت، حتى إذا كان اليوم المُوالي سارت ساعات ما قبل “البُوكلاجْ” بطريقة أكثرَ سلاسة وأكون قد أنجزتُ، في ظروف ضغط أقلّ، المطلوبَ منّي ضمن السّلسة، في مهنة لا تعترف لأبنائها بحقّ في راحة؛ بليلٍ كما في نهار.

سهرتُ على ما كتبتُ لياليَ طويلة. كلمةً وراءَ كلمة وجملة وراءَ جُملة نقشتُ -بحرص شديد على الشّكل والمعنى كما فعلتُ دائما- مواضيعَ هذه الحكايات. شطبتُ وشذبتُ، سبّقتُ وأخّرتُ وراجعتُ وعدّلت.. ثمّ أمضيتُ ساعات ما بعد العمل وأنا أنقر، كي أنقل المخطوط إلى ذاكرة الحاسوب. عرضتُها (العشرين حلقةً الأولى) على مُدير النّشر، فوافق على نشرها في الحال. ومنذ ذلك الحين، بدأ سباقي مع الزّمن في أفق مُسايَرة الوتيرة التي كانتْ تُنشَر بها الحلقات ذاتَ مساء.. ثمّ كان أن اشتريتُ جهازي الخاصّ، وفق ما خطّطتُ. وهُنا بدأتْ حكاية أخرى، فصْلٌ آخَر من فصول علاقتي بالكتابة، بلا قلمٍ، أزرقَ أو أحمر؛ ما دامت الكتابة في الأزمنة الحديثة قد استغنت، أو كادت، عن الورقة والقلم.

وأنا بصدد كتابة إحدى الحلقات من هذه اليوميات، مُوازاةً مع ارتباطي بعالـَم الافتراض، إذ اعتدتُ أن أتقاسم حلقاتها مع أصدقائي الافتراضيين، مارَس عليّ “المُوديم” الغبيّ لعبته المُفضَّلة. أخذ الضّوءُ الأحمر يُومض ويختفي بسُرعة تُؤشّر على أنّ أيّ اتصال لي بالعالم خارج غرفتي، في الحيّ الخلفي، قد انقطع. بدّلتُ وضعي مرّات، دون أن أفلح في جعل الأداة الصّغيرة الموصولة بجهازي تعمل.

التفتُّ إلى عبد الله العايْل، الذي كان في زيارة لي، في إطار “الورش” الذي فتحنا لإعداد هذه اليوميات للنّشر، وأشهدْته على ما تفعل بي أدواتُ تواصُلنا، التقليدية، في أزمنة الأجهزة والتكنولوجيا الحديثة. ضحكنا على الموقف وتبادلنا تعليقات حول المسافات الضوئية التي تفصل بيننا وبينهُم.. حرّكتُ “المُوديمَ” في جميع الاتّجاهات وتحمّلتُ الوزرَ الإضافي لجهازي الثقيل فوق رُكبتَيّ لكنْ لا تجاوُب. ظلّ الضّوء على وميضه واختفائه المُتلاحقَين، بالاستفزاز ذاته. تتالت ضحكاتنا وتعليقاتنا وازدادتْ كثافة الدّخان في غرفة خلفية في شارع خلفي..

-ويقولون لك تخلّصْ من عادة التدخين السّيئة، كيف!؟ ليس هناك أسوأ من خدماتهم وسلعهم التي يبتزّون بها جيوبَنا، المُبتزَّة من جهات عدّة.

قلتُ، وضحكاتُ العايل تُجلجل أكثرَ فأكثرَ في صمت الحيّ النّاعس. عزلتُ الآلة عن الكهرباء واتخذتُ وضعيتي الاعتيادية في طرف السّرير، لكنْ لا جديد. رغم كلّ مُحاوَلاتي، استمرّ الاستفزازُ من الجهاز الثقيل ومُلحَقه، تلك الأداة الصّغيرة، رابطي بالعالَم الجديد. تناولتُ كتابا سميكا كان مُلقى في جنب السّرير، كنت منذ مدّة أنتظر أن أجد فرصة لقراءته لو سمحتْ لي بلواي الجديدة، الارتباط بعالَم الافتراض. ثبّتتُ الكتابَ أسفلَ الجهاز حتى يرتفع “الموديمُ” قليلا ويقبلَ بأداء مَهمّته التي من أجلها دفعتُ ثمنه ومن أجل عيون “كونيكسيون” تظهر وتختفي، حسب مزاج الشّركة صاحبة الخدمة، التي تسرق من جيبي كلّ ليلة عشرة دراهمَ إضافية.

-عجباً لهذا الزّمن! إذا صعدتَ معي إلى سطح المنزل تستطيع أن ترى بوُضوح علامة الشّركة فوق عمارة عالية في الجهة المُقابلة، غير بعيد؛ لكنْ حين تطلب الخدمة لا تجدُها أو لا تجدها كما تريد أو كما يُفترَض فيها أن تكون. إذا كانت هذه حالي ومقرّ فرع الشّركة لا يبعُد عني إلا بأمتار؛ فأيَّ خدمة ستُقدَّم لِمنْ هم أبعد؟!

عاد الضّوءُ الأخضر ليُعوّضَ ذلك الوميضَ الأحمرَ المتقطع. لقد عادت “العانِسْ” كونيكسيونْ!

نظرتُ إلى الكتاب أسفلَ جهازي. واصَل دماغي مُطارَدة بداية قصّة تتمحور حول معاناة شهرزاد الحَاكية في السّرود التقليدية من هذه الطفرة اللافتة في التكنولوجيات الحديثة. وثّقتُ بداية القصّة وسجّلتها في جوف الحاسوب ثمّ عدتُ إلى ورشة “أضاعوني”؛ أستمع إلى اقتراحات وملحوظات العايْل. وإن هي إلا لحظات حتى انطلقتْ معزوفاتُ صديقي تكسرُ صمتَ المكان.

بعد حين لم يعُد جسدي المسكينُ، بدوره، قادرا على تحمّل مزيد من التّنقيح والتشذيب والدّخان؛ فبدأت تُسمَع في الحيّ الخلفيّ، في مدينة باردة، معزوفتَا شخير مسخوطَيْ مهنة يأكل ليلُ المدينة من حياتَيهما ما عاف النهار..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *