عبد الرزاق بوتمزار

ح. 111

لن نرحَل فقط لأننا لم ندفعْ!

لأنّني بدأتُ من الصّفر ولمْ يقتنعْ كثيرون بمشروع المكتبة الذي تبنّيتُ ضدّا عن كل التّوقعات، لم يُساندْني أحدٌ، خصوصا في البداية، عدَا صهري. كان علي أن أتحمّلَ تبعات ذلك الاختيار وحدي. فعلتُ كلَّ ما يمكن حتى يستمرّ المشروع ويتطوّر؛ لكنْ دون جدوى. بيدَ أنّني ارتكبتُ، أيضاً، أخطاءَ قاتلة لا شكّ في أنّ أيّ تاجرٍ مُحنَّك، أو ربّما حتى مبتدئ، كان ليتجنّب الوقوع في شرَكها.

أمام قصَر ذات اليد، لم أجدْ بديلاً من اللجوء إلى مُؤسسة للقروض الصّغرى؛ وكانت تلك أولى الخطوات نحو إفلاسٍ على المدى البعيد؛ وإنْ بدَا الأمر خلافَ ذلك في البداية. زيّن لي شيطانٌ، أو شياطينُ، طريقَ الدّيون. كنّا خمسة أبالسة، في الحقيقة، كلٌّ منا يُوسوسُ للآخـر ويَفرِشُ له طريقَ “الكْريدي” وُروداً. كان لدى الواحد منّا ما يكفي من التبريرات كي يمُدّ اليدَ إلى أيِّ مُنقذ مُحتمَل قد ينتشلنا من بين أنياب الحياة المُكلفة، الرّافعة سقفَ الطلبات كلَّ يوم أعلى؛ ولو سارتْ كثيرُ مُؤشّراتٍ نحو مَهاوي الانحدار.. كان علينا أنْ نَكُون، بالضّرورة، خمسة أشخاص فأكثر كي نُكوّن مجموعة، كما صنّفَنا، بعد أيام، مُوظفُ الجمعية. صار لنا ملفّ في سجلات وتَحوّلنا أرقاما لدى جمعية للقروض، فوق ميزانِ الرّبح والخسارة في لعبة التّجارة، في أزمنة ليس فيها مكانٌ للشّعراء ولا للحالمين. زيّنَ لنا الأمرَ، أيضاً، أننا “لنْ نشرعَ في دفع الأقساط إلا بعد شهر من تاريخ تسلّم السّلفة”، حسب تلك الجملة السحرية التي كان يردّدُ على مسامعنا جميع مُستخدَمي جمعية القروض بمُناسَبة وبلا مُناسَبة. ورغم أنّ القرضَ كان هزيلا، فقد استسلمنا لإغراء المُغامَرة.

بعد مُدّة قصيرة من تكويننا المجموعة، استفدْنا من المبلغ. أمضينا على وثائقَ كثيرة واستلمْنا السّلفة “كاشْ”. افترقنا أمام باب الجمعية وسار كلٌّ في اتّجاه، مُطارَداً بانشغالات الحياة الكثيرة.

اقتنيتُ بعضَ لوازم العمل وباشرتُ إصلاحات في الدّكان، محلي الصّغير، أمام الثانوية التي كنتُ قد غادرتها قبل عشر سنوات. وبين شُقوق كثيرة في جدار التّجارة، التي لمْ أكنْ أتقن أبجدياتها، تسرّبتْ أموال السّلفة الضّئيلة دون أن تسُدّ جميع الثقوب. والأدهى من ذلك أنّ الشّهر الأول، الذي لم نكنْ فيه مُطالَبين بالأداء، وفق ما كان يقول موظفو الجمعية ويُعيدون، انصرَم أسرعَ مما كنّا نتوقع. كان علينا، ابتداء من الشّهر الثاني، أن نضع قدْراً ممّا نربح جانبا، في انتظار أن يأتيّ مُستخدَم الجمعية مرّة في الأسبوع ليتسلمه ويعود به إلى صندوق مُؤسّسته الجَشِعة. ولسبب ما، اتفقنا مع موظف الجمعية على أنه سيجد أمواله في عُهدتي أنا كلَّ خميس. كان علي أن أجمع من عناصر المجموعة الخمسة المبلغَ كاملاً، وفوقه مبلغي، وأنتظرَ طلة الموظف، غيرِ البهيّة، كي أسلمَه قسطا من ربحي الأسبوعيّ وربح بقية أفراد المجموعة.

بِعْ أو لا تبعْ. اشتغلْ أو لا. ليكنِ الأسبوع راكداً أو لِتبُرْ تجارتك أو يضربْك زلزالٌ حتى! ما يهمّ: صباحَ كلِّ خميس يجب أن يكون مجموعُ الأقساط جاهزا في صندوق مكتبتك. وفي شوارع مُتفرّقة في الحيّ الخلفي راح خيّاطان ونجّـار وحلاق وكاتب عمومي، أفراد المجموعة، يُعاركون اليوم بحثا عن دراهم الاستمرار. خاطَا أو ما أدخلا خيطاً في إبرة؛ نشرَ أو ما دقّ مسماراً في خشب ولا رفع مطرقة؛ حلق رؤوسا أو لم يُحرّك مقصّاً؛ بعتُ أو ما دخلَ صندوقي درهمُ واحد.. لا تهُمّ تفاصيلُ يومنا الصّغيرة، الأمر الوحيد الذي يهُمّ: أن نؤدّي قسط القرض في اليوم المُحدَّد، إنْ نحن أردنا أن نتجنّب “شُوهة” جمعية القروض في أزمنة الجشع بامتياز.

يوماً بعد يوم، رحتُ ألوم نفسي على أمر لا أدري كيف وافقتُ عليه: أن أكونَ مُمثلَ المجموعة لدى موظف المُؤسسة. لأنّ دكاني كان الأقربَ إلى مقرّ الجمعية؟ ربّما، لكنْ، أيضا، لأنّني كنتْ “قارِي وعْندي لورديماتّورْ”، كما كان يوسف يُردّد. من بين اللحظات التي تندم فيها على “قـْرايْتك” المُفترَضة مثلُ هذه اللحظة التي يقف فيها مُوظف الجمعية ويتطلع إليك، أحيانا بلا كلمات، منتظرا مجموعَ الأقساط الأسبوعية لعناصر المجموعة الخمسة.

يحدُث (وحدَثَ كثيرا في الحقيقة) أنّ بعضَ عناصر المجموعة لا يكونون، كلَّ مرّة، بدرجة الالتزام المُفترَض نفسِها في تعامُل ماليّ على هذا المُستوى. ما عليكَ إلا أن تشرَح الوضع للمُستخدَم، المُمتعض دوماً وغير المُستعدّ لسماع أي اعتذار أو تبرير. ما هَمَّه شرحُك أو أسفك؛ ففي مكتب خلفيّ، في شارع خلفيّ، ينتظره، بدوره، شخصٌ ما ليأتيَه بالمبلغ كاملاً غيرَ منقوص من أجل بطن صندوق المُؤسسة، الذي لا يشبع أبداً.

لكنْ، لتُخبرْ مُؤسَّستك، بصندوقها الذي لا يشبع، أنّ أحدَ عناصر مجموعتنا لم يدفعْ ما عليه. قل للمُؤسسة أن تَخبط رأسها في أقرب حائط: لا تجري الرّياحُ، كلَّ أسبوع، بما تشتهي سفينة التّاجر، النجّار، الخياط أو الحلاق. قل لمؤسستك، كما كان خالد الفاري يُردّد: “ما فيها باسْ لا ما تيسّروش لينا فلوسْ هاد الطّريطة، مالْنا غادي نْرحْلُو؟!”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *