عبد الرزاق بوتمزار

ح. 47

الكتابة وسؤالُ الفعل

تتوالى الأيام وتتسارع الأعمار. تزدحم جُثث الموتى في المقابر؛ والتاريخُ عَجلة يدفعها غُول الزّمن إلى هُوة لا قرارَ لها. والإنسان يُعاند الرّيح ويصارع التّيار لعله يربح صراعَه الأزليَّ مع هذا الزّمن الذي… لا يرحم!

الكتابة فصلٌ من فصول ملحمة مُقاوَمة الإنسان للزّمن. وكلّ يكتب لغرض. أنا؟ أكتب لأطيل عمري! لا أقصد طبعاً أن أزيدَ في سنوات كُتبت لي؛ إنما أقصد أنّني كلما كتبتُ أكثرَ أجّلتُ موعدَ الموت مع هذا الجسد المُشاغب. هل أنا أخشى الموتَ إذن؟ نعم، وأجزَع منه! وتعاطيَ الكتابةَ هو نوعٌ من السّخرية من شيء لا بدّ سيَهزِمُني، في النهاية، فلأهْزِمْه قبل أن يسقيني طعمَ هزيمته المُميت!

لكنْ، هل تُحقّق الكتابة كلَّ ما يصبو إليه المُبتلي بلوثتها؟ هل يقول الكاتبُ كلَّ ما يريد؟ حتماً، لا! فكلما أنهى الواحدُ منّا ما كتب وأعاد قراءته اكتشف أنه لم يقلْ كلّ ما كان يحلم بأن يقول؛ أنّه لم يُشفِ غليله كما ينبغي؛ أنّه ما زال هناك ركنٌ قصيٌّ على مساحته يقبع جرحٌ من أيام غابرة، غادرةٍ، تحوطه جيوشٌ من فخاخ الذاكرة (أو رقابةٍ ما) يستعصي اختراقُها. أحياناً أخرى، قد يتدخّل العقل ليحُول دون اقتراب القلم من دائرة بعض الجراح..

رغم هذا، حين يقتنع كاتب (دون تمييز بين أنواع الكِتابات أو أصناف الكتّاب) بأنه قال أكثرَ ممّا قال في المرّة الأولى، في المُحاوَلة السّابقة، تعود بارقةٌ من الأمل لتجعله يُفكّر في ركوب أمواجِ مُغامرة أخرى. ومن هنا، تتأتى الاستمرارية والتحدّي؛ وهذا هو المُهمّ في طقس الكتابة!

مارستُ الكتابةَ في معظم أشكالها وتصنيفاتها. كتبتُ الخاطرةَ والقصة والمقالةَ وخربشْتُ مُحاوَلات في الرّواية؛ ضاعت منّي بعضها، بطريقة أو بأخرى. صفحاتٌ أخرى من هذه الكتابات الرّوائية ما زالت تنتظر، في مكان ما من أحد هذه البيوت الكثيرة التي تنقلتُ بين عتباتها..

في مرحلة من حياتي، مارستُ الكتابةَ العمومية. قمتُ، أيضاً، بتصفيف بحوث ودراسات جامعية وغيرها. اشتغلتُ مُراسلا لجرائدَ أسبوعية وأخرى يومية. أبعدني ذلك، أحياناً كثيرة، عن عشقي الأول: القصّة؛ لكنْ في كلّ الأحوال حظيتُ، دوماً، بامتياز مُجاورة القلم والورقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *