عبد الرزاق بوتمزار

ح. 46


لْمنارة، لْعرصة، أكدالْ.. النْـّزاهة

الفضاءات الخضراء في مُرّاكش قصّةُ عشقٍ أبديّ، نمطُ حياةٍ تسير على إيقاعات بطيئة اعتاد المُرّاكشيون وتيرتها وألِفوا تفاصيلها البسيطةَ التي تصنع جزءاً من تاريخ بلد آمنٍ وجميل اشتهر سُكّان المدينة الحمراء بين بقية أهله بكونهم أبناءَ بهجة.

من حين إلى آخر، كنّا نُعدّ العُدّة ليوم نقضيه بعيداً عن جُدران البيوت الرّازحة تحت وطأة الحرارة والرّتابة وتشابُهِ تفاصيل الأيام المُصهَدة. عرصاتٌ كثيرة بأسماء مُوغلة في التاريخ. حدائق ومُتنزَّهات داخل المدينة وفي تخومها المحيطة. وتشكّل المنارة وأكدال وعرصة مولاي عبد السلام وغابة الشّباب نماذجَ لهذه العرصات والمُتنفَّسات الخضراء التي تُزيّن جغرافيا المدينة الحمراء.

النّـْزاهة خروجٌ إلى الطبيعة، هروبٌ من صهد المدينة القياسيّ إلى فضاءٍ أرحبَ قد تعبُره نسمة لطيفة؛ تقليدٌ يقال إنّ للصّناع التقليديين دورا كبيراً في ابتداعه والحفاظ على استمراريته.

كان صُنّاع مُرّاكش التقليديون، إذن، يُمضون أيام الأسبوع مُنكبّين على إبداع تُحَفهم الفنية النفيسة، التي يشتغلون عليها داخل دكاكينهم المُتلاصقة في الأحياء العتيقة المُحاذِية للسّاحة المشهورة. وفي يوم العطلة الأسبوعية، دأب أولئك الصّناع على الحجّ إلى عرصات المدينة، مُصطحبين طنجياتهم وبقية مُستلزَمات نُزْهتهم الأسبوعية.. هذا ما يحكيه تاريخ ُالمدينة الشّفهيّ عن عادة الخروج إلى النّـْزاهة، الذي توارثتْه، في هذه المدينة وفي غيرها من مُدن التاريخ، أجيالٌ عن أجيال.

كان خالد التّحفاوي (الصّنايْعي) مِحورَ جميع خُططنا وبرامجنا كلما فكرنا في تنظيم واحدةٍ من تلك النزهات. أمام بطالتنا وعطالتنا القسرية، التي كانت تحكم على جيوبنا بأن يُصفّر فيها الرّيح في أغلب الأحيان، كان “السّي التحفاوي” يتكلف بالشّطر الأكبر من الميزانية التي تتطلبها خرجاتنا. في أحيان أخرى، كان يتكلف بكلّ المصاريف. بعفويته وتلقائيته وعشقه الكبير للأجواءالجميلة التي كانت تُحيط بلحظاتنا تلك، كان خالد عنصراً لا يمكن الاستغناء عنه في مثل تلك الجلسات الرّائعة. وكانت حدائق أكدالَ، القريبة إلى محلات سكنانا، وجهتنا المُفضَّلة كلما قرّرنا الالتفاف حول طنجية سارت بذكر لذائذها الرّكبانُ على امتداد رُبوع المملكة.

في المساء، كنّا نقفل عائدين إلى ديارنا وقد خفّت الحرارة وبدأت تهُبّ نسماتٌ باردات. ندلف إلى بيوتنا. نخلو بأنفسنا. يعود الانتظار ليتسيّد الأفق كلما فكّرنا في مصايرنا المُعلقة. تسير العجلة إلى الأمام، بلا توقف تسير. وحدها تطلعاتنا والأماني الكبيراتُ تراوح مكانها، عصيّةً على التحقق إلا في أحلام ليالينا الجامحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *