عبد الرزاق بوتمزار

ح. 45

حفلةٌ على شرَف لاليصّانص

انقضت الأيام الأولى بعد حصولنا على الشّهادة عادية وهادئة. كنا، حينئذ، في مرحلة الانتشاء بإنجازنا الدّراسي الخارق. ينطبق هذا الإحساس، طبعاً، على كلّ من أفلحوا في اجتياز مرحلة الدّراسة الجامعية بنجاح؛ أمّا الذين فشلوا في ذلك، لسبب أو لآخر، فتلك حكاية أخرى..

تخلّصنا من كلّ الثقل الذي ظللنا نرزح تحته طيلةَ سنوات التحصيل الأربع. تفرّغْنا لمُزاوَلة بعض انشغالاتنا وعاداتنا اليومية، الجميل منها والأقلّ جمالاً، دون أن نكون، كما في السّابق، مُكرَهين على أن نُفكّر، دوماً، في الدّروس وفي أجنداتنا المُزدحمة والمُتلاحقة. واظبْنا على الاجتماع في “الواحة”، الحزام الأخضر المحيط بالحيّ، والذي صار، بحكم اجتماعاتنا الكثيرة التي أمضيناها فيه، بمثابة بيتٍ ثانٍ لنا، مفتوحٍ على جمال الطبيعة، تحرسه عيون جبال الأطلس، التي تبدو بإطلالتها البهيّة، أكثرَ قرباً من المدينة ممّا هي عليه في الحقيقة. تحت ظلال الأشجار الوارفة للمكان، واصلنا مُزاوَلةَ شغبنا الجامح في المُعاكَسات وفي لعِب الورق والتخطيط لبرنامج المساء. ومساءاتُ مُرّاكش ولياليها هي الأوقات التي تستحقّ أن يعيشها المرء، بكلّ تفاصيلها البسيطة والرّائعة في آن، كي يدرك ما معنى أن يعيش في “أجمل مدينة في أجمل بلد”..

في غضون ذلك، كنتُ كلما خلوتُ إلى نفسي أسألُني إلى أين هي سائرةٌ ذاتي؟ أيَّ مَركب قد استقلّت؟ وخطواتي، إلى أين تقودني؟!..

وكما حدث حين اقترح أحدُهم، وقد أنهينا المرحلة الثانوية مُتوجين مسارَنا بـ”الباكْ”، اقترح سعيد، ذاتَ مساء، أن نتكفّل، إسماعيل وأنا، بتنظيم حفلة التخرّج، في منزل عائلته. أراد سعيد، وكان أحدَ طلبة شعبة البيولوجيا، أن يُؤرّخ لحدَثِ حصوله على الشّهادة الجامعية. تدارسْنا جميع التفاصيل المُتعلقة بـ”تموين”الحفلة والبحثِ عن “ديدْجي” يُنشّطها ويضبط الاختيارات الموسيقيةَ التي ستتراقص على إيقاعاتها الأجساد وتَدبّرِ كلِّ ما يلزم من أكسسوارات تليق بالمناسَبة وإعدادِ الدّعوات وتوزيعِها.

عندما انتهينا من ضبط جميع هذه الأمور، انتبهْنا إلى خلل تنظيميّ أجمعْنا على أنه سيُقوض كلَّ مجهوداتنا وينسف جميع ترتيباتنا.

-حفلةٌ بدون فتيات محكومٌ عليها، مُسبقاً، بالفشل!

هكذا علّق أحدهم، ونحن نُناقش آخرَ الإجراءات. لم يكن يفصلنا عن موعد الحفلة سوى يوم واحد وبضعِ ساعات عندما لاحظنا قلةَ الجنس اللطيف في قائمة المدعوين. وفجأةً، كعادته في مثلِ هذه المواقف، تكلّم المُنقذ، ماوكلي! تَعهّدَ أمامنا جميعاً بأن يُحْضر لوحده ثماني “شابّات”.. حسبَها بعضُنا إحدى نُكته السّمجة، أمّا من يعرفونه جيدا فقد أوْلَوْه كلّ اهتمامهم، لتتركّز عليه الأنظار، تستحثّه على شرح اقتراحه. وبعد أن شرحَ ماوكلي، حُل الإشكال الأخير في حفلتنا المُرتقَبة.

وفي أحد أيام ذلك الصّيف القائظ من 1997، اجتمعنا، عصر ذلك اليوم التاريخي، في سطح منزل سعيد، الفسيح، نضع اللمساتِ الأخيرةَ في المكانِ نفسِه المُخصّص للاحتفال على شرف الغالية لاليصّانصْ.

في اليوم الموعود، وعندما قاربت عقاربُ السّاعة الخامسة ولم تظهر بعدُ طلائع المدعوين، داخَلَنا الشكّ شيئاً فشيئاً وأخذنا نتبادل، من حين إلى آخر، نظراتٍ قلِقةً ومُتوجّسة. لم يكنْ هناك غيرُ خالد التّحفاوي ورفيقيه الدّائمَين: منير وعلي؛ وقد اتخذوا لهم مجلساً في زاوية خلفية سرعان ما تصاعدتْ منها أبخرة التّحفاوي المُدوّخة. كان “المبليون” منّا يقتربون من مجلسه، بين الفينة والأخرى، لالتقاط بعض الأنفاس. ولأنهم كانوا من أبناء الدار، بحكم أنّ الأول هو ابنُ خال سعيد والآخَرَيْن من جيرانه وصديقَا طفولته، فقد بدأتْ “تباشيرُ” فشلِ الحفلة تلوح في الأفق؛ بيد أنّ أماراتُ التوتّر والترقب سرعان ما انْجلتْ عندما بدأتْ، أخيراً، تتقاطر أفواجُ المدعوين. راح كل واحد منهم يُبرّر التأخّر بحرارة الجو المُشتعلة. وفي تبريرهم ذاك كانوا مُحِقّين: كانت حرارة اليوم لا تُطاق، حتى في ساعات مُتأخّرة من ذلك المساء “التّاريخي”..

صدَحتِ الموسيقى في الأرجاء وبدأت الأجسادُ تتراقص هنا وهناك. انشغلتُ، رفقةَ آخرين، بالإشراف على توزيع الحلويات والمشروبات على جمهور الحاضرين، وبأشياء أخرى.. لكنّ ذلك لم يمنعْني من تبادُل الاستفسارات مع إسماعيل وعبد الله وسعيد عن سرّ غياب ماوْكلي غير المفهوم. كانت معظمُ الشّابات الثمانية اللواتي وعد بدعوتهنّ إلى الحفل قد وصلن بالفعل واتّخذن مجالسهنّ وسط المدعوين، دون أن يظهر لداعيهنّ أثَر.

عرفتُ أنه يُؤخّر حضوره فقط ليُرتّب في دماغه الرّهيب تبريراتِه وليُعدّ خُططه الجهنمية لمواجهة تساؤلات واستنكارات كلّ ذلك العدد من الصّاحْبات اللواتي أقنَعَ كلّ واحدة منهنّ بالمجيء للاحتفال رفقتَه بحفلة التخرّج. بحكم معرفتي المسبقة ببعض هؤلاء، كنتُ مُضطرّاً إلى اختلاق بعض الأجوبة وإعطائهنّ تطمينات وإيجاد تبريرات لتأخّره. “وَانا مالي؟” كنتُ أقول لنفسي، وأنا أضحك للموقف الجديد الذي وضع فيه صديقي ماوكلي نفسَه.

كان هناك، أيضاً، الحَسَنان (أحنف والقوق) زميلا منير في كلية العلوم. كان القوق، بِخفّة ظله وقفشاته المُضحكة، يُضفي، دوماً، طابعاً من المرَح والانشراح على الأجواء؛ إلى درجة أنْ صرنا لا نستطيع أن نتخيل أن تمُرّ مُناسَبة مثل تلك لا يكون حاضرا فيها.

وأخيراً، أطلّ صديقنا مُتأبّطاً ذراعَ إحداهنّ. في كامل أناقته كان؛ مُحاطاً بإحدى “الدّرياتْ” الجميلات. راقبتُه، من بعيد وهو يلِج المكان. تَخلّصَ، برفق، من ذراع مُرافِقته، وهو يجول بنظره في أطراف السّطح الواسع. التقطت عيناه بعض صديقاته العديدات. أَضحكَني المشهد، وأنا أنظر إلى المسكينات والألوانُ المُمتقعةُ تتعاقب على تقاسيمِ وجهِ الواحدةٍ منهنّ وهي تنظر إلى صاحْبْها يصل مُتأخّراً، وفوق هذا، برفقة “صاحْبة” غيرِها.

ونحن فقط، خالد التحفاوي ومنير العلالي وعلي الخرّازي والأحنف والقُوقْ، أدركنا كم كان الموقفُ الغريبُ مثيراً للضّحك على ضحايا ماوكلي المسكينات والشّفقة في آن. وإن هي إلا لحظات، حتى صدحت الموسيقى في الأرجاء وغطّتْ على كلّ ما جرى من تفاصيل صغيرة في تلك الأمسية البعيدة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *