محمد الجلايدي

 

أطلقت سيارة، عبر مكبر الصوت، موعدا لسكان حينا الإسمنتي الهجين، القابع خلف ضوء الشمس ونور القمر! كان الموعد في التاسعة ليلا والمكان ساحة رملية تتوسط المساكن، وهي ساحتنا -نحن الأطفال- لأنها ملعبنا لكرة القدم. ولأول مرة نهتم، كأطفال، بهذا الموعد العمومي، لأننا معنيون به مثلما الكبار معنيون، على عكس المواعيد العمومية الأخرى التي كانت توجه لهم فقط! ذلك ما أكده صوت المتكلم وهو يكرر في خاتمة إرساليته: “لا تفوّتوا هذه الفرصة عليكم، أيها الأطفال الأعزاء!”..

وﻷننا كنا مدعوين، انشغلنا بموضوع الدعوة وانطلقت مخيلاتنا الصغيرة في الاشتغال لإنتاج تصورات قبلية لما سيحدث. كان اليوم كله حافلا بالنقاش الطفلي، يقدم فيه كل منا لرفاقه ما تصوره عن هذا الحدث المتميز والمرتقب.

وفي الثامنة مساء، كانت الساحة الرملية غاصة بنساء الحي ورجاله وأطفاله. بعد ذلك بقليل، شرع التهيؤ لإطلاق الحدث. فانكشف الموضوع واتضح. وكان الأطفال الذين صدق توقعهم مزهوين. أما الذين حادوا عن صواب التوقع فكانوا مشدوهين، ومن بين هؤلاء كنت!

إنها سينما الهواء الطلق: شاحنة مجهزة بأدوات البث، والشاشة على طلاء حائط لمنزل، ولون الطلاء أبيض. وهذه السينما المتنقلة كانت تسمي نفسها باسم منتوج تجاري تابع لمصانع الزيت. أذكر هذه الأمسية السينمائية كما لو كانت البارحة! لأنها صنعت لحينا حدثا لم يعتد عليه السكان إلا بعد أن تكرر مرات أخرى في ما بعد. وكان لوقع هذا الحدث طعم خاص في نفسي وسأحمل ذكراه الطفلية معي، لأنه كان منطلقا لعلاقة جديدة في حياتي، وهذه العلاقة كانت لتكون مع السينما، التي لعبت دورا مهما في صقلي وصقل جيلي وبصمت وجداننا الجمعي، كما وسعت مداركنا وفهمنا ونحن في بداية الطريق.

-فمع فيلم “سَنْگم” تقدم إدراكي في تمثل تيمة “الحب”! وومع “أمنا الأرض” فهمت معنى الارتباط بتراب الوطن! ومع “دوستي” بدت لي بوضوح تيمة “الصداقة” الحقيقية كارتباط علائقي اختياري! وكيف يتجلى الحب في هذا الارتباط ! وكيف يتبدى الصدق فيه! وكيف تنبني الحميمية فيه كذلك!

وأذكر، بوضوح قمر تلك الليلة الصيفية، أن الفيلم كان هنديا، باللون الأبيض الأسود وكان عنوانه “الوردة السحرية”، وهو أول فيلم سينمائي شاهدته في حياتي.

وأذكر في ما بعد أن أمسياتنا الطفلية، التي تتلو لعب النهار، كانت في بعض الأحايين تخصص لحكي الأفلام لبعضنا البعض وكنا نسمي البطل “الولد” والبطلة “البنت” وعدوَهما “البّاندي” ومساندهما “حَماقا”! وكنا نتنافس على لعب دور “الولْد” ونشمئز من لعب دور البّانْدي”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *