يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ25

تضرر كثيرون وتضرّرتُ من الحظر. تراجعت عائداتي وقلّت مبيعاتي واختفت معظم زبوناتي. أجبرتهنّ الأزمة على الاستعاضة عن الماكياج والعطور والسّوتيانات الجديدة. ميزانيتها ستنفع في سدّ حاجات أكثر إلحاحا وأهمية للبطون، في ظل أزمة الجّايْحة المستجدة والمستبدّة. لكن عبيبيس جسّد مأساتنا، نحن سكان الأحياء الخلفية، في ضوء القرارات الحكومية خير تجسيد. كأنما سبع صنايع صارت، بين حظر وحظر، لا توفّر لقمة عيش. بات كما مشرّد، تائهاً بين أركان السّويقة فترة، وقد اسودّت في وجهه الحياة وهائما عْلى وجهه بعيدا عن الحومة، خصوصا في الفترة المسائية. كانت كل خدماته وتجارته رهينة المقهى، والمقهى مغلق ومالكه بدَل الحرفة.

بعد فترة، اقترح عليه أحدهم أن يبيع الرّايبْ. في كل الأحوال لا يمكنه الاستمرار بلا عمل. لا أحد سيسأل عن سجائره، إلا نفر قبل المغرب بدقايق، ولا عن تلميع حذاء. وحتى زبائن الكراء والرهن كانوا يأتونه في المقهى، والمقهى الآن مغلق و”الوقتْ مزيّرة والناعورة خاصّها تدورْ.. والراسْ اللي ما يْدور كْدية”. وهذا الفيروس دوّرَ الرؤوس والكدْياتْ، بل دولا بكاملها، بكدياتها وجبالها وأنهارها وصحاراها، كلٌّ بأمر الجّايحة التّافهة مسلّمون. 

كنت أعاني أيضا من فائض الوقت، حدّ الضّجر والسّأم، بل حدً الكآبة أحيانا. جلبُ قِطع جديدة ممّا أبيع، حين أرى الوقت قد حان لذلك، لا يتطلّب غير ساعة أو أقل. وسحبُ عربتي من گراج وْلد العبدي حيث أتركها، مثل بعض تجار السّويقة مقابل بعض الدراهم عن كل ليلة، إلى موقفي الدائم لا يتطلّب أكثر من عشر دقائق.  وبين هذا وذاك يستعلم النهار طويلا وجائعا ومملا.

فقط هاتفي المحمول كان يكسر رتابة الزمن المتوقف، خصّوصا خلال النهار. وكان عبيبيس غالبا ما يلازمني من أجل عيون هذا الهافت تحديدا. صحيح أن له هاتفا، لكنه يبدو من أزمنة أخرى، مكسورا ومرمّما بترقيعات غي متجانسة من حيث الألوان. ناهيك عن أنه من نوع لا يصلح لغير استقبال مكالمة أو إجرائها، وربما كتاب رسالة قصيرة أو استقبالها. فكان كثيرا ما يرافقني حتى يطّلع على الأخبار من خلال هاتفي الذكي، وأيضا على جديد الشيخة الطراكس التي كان يعشق التفرج على موخرتها، ولو في نهار رمضان.

لكنْ لم أكن أحبّذ ذلك، فرمضان يبقى رمضان بالنسبة إلي، ولا بد من صيامه بشروطه، ولو في حدودها الدنيا. وكنتُ غالبا ما أجرّه نحو متابعة الأخبار مثلا، وما أكثر الأخبار في زمنا هذ، الذي عرّته وسائل التواصل وتطور التكنولوجيا، إلى درجة أن صار لكل حومة أخبارها ودرب!

-سْمع سمع هاد الخبر، هادشي راه فمراكش..

قلتُ له، بعدما رأيته وقد اقترب مني، والسويقةُ بعد تستعد لاستقبال يوم جديد من أيام الشّارْفات، نفّعنا الله وإياكم بها. ثم تابعت، وأنا أفسح له مكانا ضيقا في الكرسي الطويل قبالة عربة عطارتي: السلطات المحلية ومصالح الأمن في الدائرة الـ22 في مراكش تداهم مقهى في شارع الإمام مالك في كيليز، بسبب خرقه حالة الطوارئ الصحية وقرار حظر التجوال الليلي. وقد تم إيقاف خمسة أشخاص، ضمنهم زبونان ونادل ومالك المقهى وحارسه. وقد…

-أودّي خلّيني من هاد لخبار البايْتين وطلق ليّ شي مورصو ديال الشّيخة نْستقبلو هاد النهار بشي حاجة زينة، گالاك مداهمة مقهى.. علاه أخويا هادو ما يقدروشّ يديرو بحالنا ويسترو بليّتهومْ ويكميوْ فديوهوم؟! طلقْ، طلق لينا أصاحبي نغسلو عينينا مْن هاد لعمشْ معاش كنباتو ونْصبحو.. واللي با الكوميسارية اللي يدّيه ليها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *