le12.ma -بي بي سي

“ليلة صامتة” ترنيمة غدت ظاهرة ثقافية لا يخلو منها موسم لعيد الميلاد في معظم أرجاء العالم، باختلاف ثقافاته.

في عشية كل عيد ميلاد، يتقاطر المئات من بلدان مختلفة نحو الكنيسة الصغيرة ثمانية الأضلاع في بلدة أوبرندورف النمساوية منشدين ترنيمة باتت بين أحب ترانيم الميلاد في العالم؛ وهي ترنيمة “ليلة صامتة”.

وفي الوقت الذي تغمر الأضواء البيضاء اللامعة إحدى ليالي دجنبر، يقف رجلان يعزف أحدهما الغيتار أمام الكنيسة بينما ينشد الآخر -بالألمانية- تلك الترنيمة “المقدسة”، تماما كما كان الحال أول مرة عشية الميلاد في 1818 حين أنشدت الترنيمة أول مرّة. ثم تنشد جوقة من المرتلين الترتيلة بلغات عدة في برد الشتاء القارس.

يكتسي موسم الميلاد هذا العام أهمية خاصة بمرور قرنين على البداية “المتواضعة” لتلك الترنيمة في بلدة أوبرندورف.
لماذا ينبغي ألا نكذب على أطفالنا بشأن “بابا نويل”؟
هل مواليد الألفية الجديدة هم الجيل الأكثر ثراء؟

بتواصل موسم الأعياد، تحتفل البلدة وبلدات أخرى بمقاطعة سالزبورغ بمرور 200 عام على ترنيمة “ليلة صامتة”. ويشمل الاحتفال عروضا في متاحف صغيرة تؤرخ لبدايات الترنيمة ولحياة الرجلين اللذين ألفاها، وهما القس يوزف مور والمدرّس وعازف الأرغن فرانس زافير غروبر.

مؤخرا، تم تمهيد طريق لمسافة 1,2 كيلومتر عبر بلدة “هينترزي”، الواقعة جنوب شرقي سالزبورغ، يقتفي أثر مور بعدما غادر من أوبرندورف. وفي نونبر، رفع مسرح فلزنرايتشوله بسالزبورغ الستار عن غنائية بعنوان “ليلتي الصامتة” احتفاء بمرور قرنين على الترنيمة. وتشمل المسرحية، التي تختتم بحلول الميلاد، الترنيمة الشهيرة مشيرة إلى بدايتها.

على امتداد القرنين الماضيين، أصبحت “ليلة صامتة” ظاهرة ثقافية لا يخلو منها عيد الميلاد بمختلف أرجاء العالم، إذ ترجمت إلى أكثر من 300 لسان ولغة، بينها اللاتينية. وفي 2011 ضمتها قائمة “يونسكو” إلى التراث اللامادي؛ وقد أداها عدد لا يحصى من مغنين على مر السنين، بدءا من بينغ كروزبي إلى ماريا كاري.

عشية كل عيد ميلاد، يتقاطر المئات إلى كنيسة “ليلة صامتة” ببلدة أوبرندورف النمساوية لإنشاد ترنيمة تحمل نفس الاسم
كما كانت الترنيمة وحيا لسلام لم يدم. ففي عشية عيد الميلاد عام 1914، في بداية الحرب العالمية الأولى، ألقى الجنود في الخنادق في جبهة “فلاندرز” أسلحتهم وخلعوا خوذاتهم منشدين “ليلة صامتة” ضمن وأناشيد أخرى احتفالا بالمناسبة.

وربما كان موسم الميلاد الأنسب لتتبع جذور “الليلة الصامتة” والتمتع بأجواء العيد في سالزبورغ وجوارها، فالمدينة غنية بالثقافة وبإرثها الموسيقي وتربطها أواصر بموتسارت وبأسرة فون -تراب الموسيقية، التي استوحيت منها مسرحية “صوت الموسيقى”.

في خضمّ الاحتفال بمرور قرنين على الترنيمة، يُرجح ليو باورنبرغر، مدير هيئة سالزبورغ لتنشيط السياحة، أن يبلغ عدد الوافدين أكثر من مليون زائر على امتداد نونبر الثاني ودجنبر، وإن ظلت فعاليات “الليلة الصامتة” مفتوحة طوال السنة.

يقول باورنبرغر “رغم أننا ألِفنا طويلا “الليلة الصامتة” في سالزبورغ ومحيطها، فإن أمدا مضى قبل أن يعم الوعي والفخر بهذا الكنز الفريد من كنوز ثقافة الألب، ويعد مرور قرنين مناسبة رائعة لنشر الوعي عبر العالم وتقريب الآخرين لتاريخ “الليلة الصامتة” أو “الليلة المقدسة” ولجذور الترنيمة”.

يمكن تتبع محطات في حياة الرجلين اللذين كانا وراء الترنيمة في عديد من القرى والبلدات حيث عاشا وعملا. غير أن البداية الحقيقية كانت في أوبرندورف الصغيرة، على نهر سالزاك، على مسافة نحو 20 كيلومترا شمال سالزبورغ.

ففي عشية الميلاد 1818، طلب القس مور، بعد تكليفه برعاية أبرشية سانت نيكولاس الجديدة، من صديقه غروبر تلحين قصيدة صاغها قبل عامين، وجاءت النتيجة لترضي مور، الذي أدرج الترنيمة ضمن احتفال بسيط أعقب قداس الميلاد في ذلك المساء.

أنشد مور الترنيمة بطبقة صوت رفيعة، مصاحبا ذلك بعزفه للغيتار، ورافقه غروبر بطبقة صوته المنخفضة أمام من حضروا القداس، من بنائي القوارب ومن العمال وغيرهم.

ولا يعرف السبب الذي جعل مور يؤلف كلمات الترنيمة. ولا يأتي خطاب مأثور لغروبر بعنوان “القصة الأصلية لترنيمة الميلاد، ليلة صامتة، ليلة مقدسة” على ذكر السبب، وإن قال إن مور سأله ذات يوم أن يؤلف “لحنا يصلح لصوتين منفردين بمرافقة جوقة وعزف الغيتار”.

ويرجح مايكل نيورايتر، رئيس رابطة كنيسة “ليلة صامتة” والمشارك في كتاب نشر مؤخرا بعنوان “ليلة صامتة: دليل الترنيمة”، أن الكاتب ربما كان يتوق إلى أن يعم السلام في أعقاب حروب نابليون في أوربا، والتي دارت بين 1803 و1815، لتخلف صعوبات جمة. وحينذاك، تعرضت أوروبا لشتاء طويل غير معتاد في 1816 شهد تلف المحاصيل وعمّ فيه الجوع بسبب ثورة بركانية قبل عام في إندونيسيا البعيدة.

ويُجهل كيف استقبل المصلون في أوبرندورف الترنيمة أول مرة. ولاحقا، يكتفي غروبر بالإشارة إلى أنها حازت قبولا، وليس معروفا ما إذا كانت قد ترددت في أعوام الميلاد اللاحقة.

وهذا ما يؤكده نيورايتر، الذي تربطه صلة وثيقة بملحن الترنيمة، إذ نشأ في البيت نفسه في “هلاين”، حيث أمضى غروبر سنوات حياته الأخيرة متابعا حبه للموسيقى. واليوم أصبح البيت متحفا يعرض غيتار مور والوثائق المكتوبة للترنيمة، فيما دُفن جثمان غروبر أمام البناية.

وفي أوبرندورف، اختفت الكنيسة الأصلية، إذ أزيلت في مطلع القرن العشرين بعدما لحق ها تلف جراء الفيضانات المتكررة. وفي الثلاثينيات أقيمت مكانها كنيسة تذكارية، حيث تؤدى الترنيمة المأثورة في الخامسة مساء كل عشية ميلاد، في تقليد مستمر منذ 1953.

واليوم، تحول دار القس الملحق بالكنيسة إلى متحف أوبرندورف، الذي يروي قصة الترنيمة في سياق عصرها. فبحلول عشية الميلاد عام 1818، كانت الحرب قد حطت أوزارها بالمنطقة، وبدأ الناس يعودون إلى الحياة الطبيعية، في ظل حدود سياسية جديدة، وبعد تعطل تجارة الملح، التي مثلت عصب الاقتصاد المحلي حينذاك.

وقد ألف مور كلمات الترنيمة بينما كان يعمل مساعد قس في قرية “ماريافر” القريبة والتي تضم أيضا متحفا متعلقا بالترنيمة وتشتهر بمشهد للميلاد يضم 100 تمثال يعود أقدمها إلى منتصف القرن الثامن عشر. وكان المتحف قائما حين عمل مور في القرية.

أيا كانت القصة وراء قصيدة مور، فقد لمست القلوب ببساطة لحنها وكلماتها المعبرة عن السلام. ورويدا، رويدا، أخذت “ليلة صامتة” تجوب العالم.

وبعد سنوات قليلة من الإنشاد الأول، اصطحب رجل جاء لإصلاح أرغن كنيسة أوبرندورف نسخة من موسيقى الترنيمة إلى قرية أخرى هي “تيرول”، على مسافة 165 كيلومترا جنوب غربي أوبرندورف، حيث كان المزارعون وأسرهم يمضون الشتاء في بيع البضائع في الأسواق، وهم ينشدون بعض الأغاني الشعبية التي يجتذبون بها المشترين.

ولاحقا، ضمّت تلك الأسر بعض أشهر المغنيين الشعبيين، ومنما آل راينر وشتراسر، والذين ذاع صيتهم في ألمانيا وبقاع أخرى من أوربا وروسيا. وساهم مبشّرون ومهاجرون ألمان في نقل الأنشودة إلى بريطانيا وأمريكا وما وراءهما.

وفي سالزبورغ، مسقط رأس مور، هناك عرض خاص في متحف المدينة بعنوان “200 عام على ليلة صامتة: الرواية والرسالة والحاضر”، يشرح أثرها عالميا بالاستعانة بتسجيلات صوتية وقطع فنية ووثائق تاريخية، ويضم منصة متحركة تتداخل فيها صور رجال ونساء عدة من مختلف الأصول والأعمار ينشدون “ليلة صامتة” بوتيرة منتظمة.
ويمكن للزوار مشاهدة جوقة مكونة بالكامل من منشدين مصابين بالصمم يقصّون الترنيمة بلغة الإشارة.

ووصفت ناتالي فوكس، المتحدثة بلسان متحف سالزبورغ، العرض بالمؤثر، مؤكدة اتساع أفق الترنيمة التي جابت مختلف الأصقاع. وتتوقع أن تفد أعداد مضاعفة من الزوار هذا العام لتفوق المعدل السنوي الذي يناهز 100 ألف زائر.

وبخلاف شهرة الأغنية، قالت فوكس إن “ليلة صامتة” تمس الكثيرين شخصيا لارتباطها بذاكرة الميلاد برفقة الأهل والأحبة والسنوات الخوالي.

وتابعت “كل تلك النسمات والأطباق والزينة تحتفي بتلك الليلة المقدسة. لقد كبرنا، لكنّ أمورا صغيرة كترنيمة بسيطة مثل “ليلة صامتة، ليلة مقدسة” تعيد إلى وجداننا ما خبرناه عميقا منذ الطفولة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *