عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 71

كواليس مُسابَقة على مقاس الأديب القذافي..

 

 

بعد أن انتهينا من إلقاء قصائدنا وقصصنا في ذلك اليوم القائظ، عُدنا إلى الفندق لنتناول ما تيسّر ونستحمّ ونرتاح قليلا، في انتظار الفترة المسائية. اعتدنا على أن نمضي فترة ما بعد الظهر مُتجولين بين متاجر “السّويقة” الشّعبية القريبة أو في الأحياء المُجاوِرة؛ بيد أن حادثا استثنائيا أخرج أمسيتي تلك عن دائرة المعتاد.

في ذلك المساء “لصقني” محمد، صديقي “الثائر”، ذلك الليبيّ المُنحشر بين صفوف المتأدبين الشّباب بقناع الطالب لغرض آخرَ في نفسه ونفس النظام الحاكم.. إلى درجة جعلني، مدفوعاً بفضول غريزيّ متمكن لمعرفة النهايات، أُظهِر له ما بدَا له أنه اقتناع ضمنيّ بـ”مُحاضَراته”، التي ما فتئ يُشنّف بها أسماعي كلما “عزلني” في مكانٍ ما. اتّضح لي أكثر أنّ بلادا يحكمها شخصٌ يريد أن يكون الرّقم 1 في جميع المجالات، بما في ذلك الأدب، الذي اقتحمه بتُحَف من قبيل “القرية، القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء”، لا يُمكن لأحوالها أن تكون أفضلَ ممّا هي عليه! قلتُ لنفسي لأذهبْ مع هذا الشّخص إلى النهاية ولأنظر ما وراء كلّ تكتيكاته وتربّصه الطويل بي، وبآخرين غيري بلا شكّ، من هؤلاء الحالمين بترسيخ أسمائهم في دائرة الأدب العربي، مُحكَمة الإغلاق.

بخطى مُتثاقلة وبنظرات مُتوجّسة، سار بي عبر سرداب جانبيّ في الفندق، قريبٍ من الجناح المُخصّص للطلبة. ورغم أنّني اكتفيتُ بوعدي له بأنْ أسايره فقط إذا اقتنعتُ بما سأقرأ في الوثائق “الخطيرة” التي قال إنه سيُطلعني عليها، فقد سارع إلى اقتيادي إلى غرفة في آخِرالجناح، حيث كان ينتظرنا زميلُ له لا يبدو عليه بدوره أبداً أنه “طالب”. لم يرتح الأخير كثيرا لرُؤيتي ولا ارتحتُ. بدَا لي ذلك من خلال حركاته خلال حديثه الجانبي الطويل الذي خاض فيه مع صديقه، بعد أن ابتعدا قليلا عن المقعد حيث كنتُ أجلس، في انتظار الفصل الأخير من هذه المسرحية الهزلية التي طالتْ أكثرَ ممّا ينبغي.

أخيرا، عادا إليّ وهما يتصنّعان ابتسامتين ماكرتين ذكّرتاني بنُيوب ليثِ المُتنبّي، التي لا تُحيل بالضّرورة على الابتسام! ما جعلني أستنفر جميع قواي وحواسّي في انتظار الأسوأ والاستعداد الجيّد للتصرّف إزاءه.

بعد أخذ وردّ بينهما، انحنى “محمد” على درج أسفل دولاب في زاوية الحجرة وأخرج منه ملفاً أخضر. (كل شيء أخضر هنا).. ذكّرتُني، وأنا أخفي ابتسامة مُلحّة. كانت أوراق الملف (المكتوبة بالأخضر) قانونا داخليا حافلا بالإملاءات والالتزامات التي تُوضّح بعض أهداف التنظيم ومَراميه.

أكببتُ على قراءة نقط القانون الداخليّ، مُحاولا ًالتدقيق ما أمكنني، وإنْ حال بيني وبين فهم الكثير من النقط لونُ الخط وضعفُ قاموسي السّياسي وعائق اللغة، التي كانت نوعاً آخرَ من العربية عجزت القواعد التي كنتُ أعرف عن ضبط ميزانه.

وأنا أقرأ كلّ صفحة من أوراق الملفّ على مهل وبتروٍّ، كنتُ ألاحظ تضايُق الشّخص الثاني من تدقيقي وتمحيصي في الأوراق. ظهر عليه أنه كان يتعجّل توقيعي والانتهاء من الأمر، ما زاد قلقي واستنفر ما كان غافياً من حواسّي. انتهى به الأمر إلى مغادرة الحجرة، في ما بدَا لي فورةَ غضب لم يستطع السّيطرة عليها؛ بينما ظلّ محمد يحاول الظهور بمظهر الهادئ والدّبلوماسي إزاء قراءتي المتأنية للأوراق التي بين يديّ. كانت حركة الشّخص الآخر سبباً إضافيا كي أفكر في مَخْرج لي من هذه الورطة التي وضعتُ لها نهايةً وأنا أقوم، فجأة، من مجلسي وأقدّم الأوراقَ لمحمد، قائلا له إنّني سأفكر جيّدا في الأمر وأخبره بقراري لاحقا..

حاول الاستنجاد بما تبقى له من الهدوء والحكمة ليُفهمَني ما مؤدّاه أنّني بموافقتي على الاطلاع على القانون الداخليّ لم تعدْ أمامي فرص كثيرة للتراجع! لكنّي استنجدتُ، أيضا، ببعض اللباقة والأدب ممزوجين بشيء من نظرية حسن التخلص لأشرح له أنه لا يُمْكنني اتخاذ قرار “مصيريّ” بهذه الأهمية دون إمعان تفكير.

بعد قولي، لم يجد أمامه إلا أن يُذكّرني بضرورة اتخاذ قرار قبل انتهاء فترة وُجودنا على أرض الجماهيرية. وعدته خيرا، وأنا أطلب من الله أن يغفر لي؛ لم أكنْ أنوي، في حال من الأحوال، الوفاء بوعدي.

غادرتُ فضاءَ الغرفة. تنفّستُ الصّعَداء، وأنا أشعر بأنّني قد تخلّصتُ من حمل ثقيل كان يجثم على أنفاسي ويُكبّل حُرّيتي منذ حواري الأول مع هذا “الطالب” المُريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *