إعداد: إلياس زهدي

حلقة 10

هدية المجوس (أو: هدايا المحبين)
أو. هنري (1862 -1910)

لم توفّر ديلا من ثمن ما تشتري من البقال والجزار وبائع الخضر سوى دولار وسبعة وثمانين سنتا، بينها ستون سنتا من فئة البنس الواحد. وفّرتها ديلا بعد مناقشة حامية في الأسعار، تورّدت بسببها وجنتاها خجلاً وهي ترى نظرات الباعة صارخة باتهامهم لها بالبخل.

أحصت ديلا المبلغ مرة وثانية فثالثة.. تجده هو دائما، دولار واحد وسبعة وثمانون سنتاً. وغدا العيد، ما من حل سوى، فقط سترتمي على المقعد العتيق وتطلق لدموعها العنان. وذلك ما فعلتْ بالضبط. وحينئذ، اتضح لها أن الحياة ليست إلا مزيجا من دموع وأفراح وأحزان، ولكنّ للأحزان النصيب الأوفر.

ألقت ديلا نظرة على بيتها.. شقة مؤثثة، إيجارها ثمانية دولارات في الأسبوع. في مدخلها، يقبع صندوق للرسائل، لم تدخله رسالة. وعلى بابها جرس لم يمسّه إصبع إنسان. لوحة باهية تحمل اسم ساكنيها السيد «جيمس ويلنغهام يونغ»م رأت النور في إحدى فترات الرخاء، عندما كان صاحب الاسم الذي تحمل اسمه «جيمس» يحصل على راتب ثلاثين دولارا في الأسبوع. اليوم، وقد تقلص دخله إلى عشرين دولارا، بدأت حروف اسمه تندثر وتختفي خجلا!

وكفّت «ديلا» عن البكاء وراحت تزيل أثر الدموع من على وجنيتها المتورّدتين. نظرت من النافذة باكتئاب. رأت قطة رمادية تدرج فوق سياج رمادي إلى باحة خلفية تابعة لأحد بيوت الحي.

غدا العيد، وكل ما تملك دولار واحد وسبعة وثمانون سنتا. بهذا المبلغ الزهيد لا تستطيع أن تشتري هدية بهذه المناسبة لـ”جيم”، زوجها الحبيب. لقد ظلت عدة شهور تدّخر كل بنس تحصل عليه، وهذه هي النتيجة.. عشرين دولارا في الأسبوع لا تكفي. حاولت المستحيل كي توفر مبلغا أكبر فلم تستطع، بسبب الغلاء. الله وحده يعلم كم أمضت من ساعات وهي تفكر في شيء جميل يليق بـ”جيم” بمناسبة العيد. شيء لطيف ونادر، ولو بسيط، شرط أن يستحق هذا الشيء شرف أن يمتلكه «جيم»!

في غرفتها، بين النافذتين تحديدا، مرآة مستطيلة. وأترك لك أن تتخيل حالة مرآة مثل هذه في شقة متواضعة إيجارها الأسبوعي ثمانية دولارات. كانت ضيقة جدا، تأخذ في الطول على حساب العرض، بحيث لا يستطيع الواقف أمامها أن يرى نفسه كاملاً مرة واحدة. عليه أن يكون رشيق الحركة، سريع التنقل من جزء إلى آخر من جسمه.. وعليه، بعد ذلك، أن يجمع في ذهنه الأجزاء مع بعضها ليخرج بالنتيجة! أما ديلاّ، بقدها الأهيَف، فأتقنت فنّ النظر إلى نفسها في هذه المرآة. وها هي الآن تقف أمامها وعيناها تلألآن ولكن وجهها فقدَ نضارته وهي ترفع كلتا يديها إلى شعرها الطويل تحله من على رأسها، ثم تتركه ينسدل، بكل طوله، على قوامها الممشوق.

هناك شيئان تملكهما هذه الأسرة الصغيرة بفخر واعتزاز، أحدهما ساعة «جيم» الذهبية، التي يتوارثها الأبناء في أسرته عن الآباء. والشيء الآخر شعر زوجته «ديلا» الطويل، الذي لو حلّته وعبث به النسيم لطغى لمعانه على بريق جواهر ولآلئ السيدة بلقيس، ملكة سبأ!

ها هي الآن تحلّ جدائله وترخيه، فينسدل من حول جسمها وينساب وهو يتماوج مثل شلال بديع من مياه صافية. يصل إلى ما تحت ركبتيها، يجللها كما ثوبٍ رائع جميل. لكنها سرعان ما جمعته وأعادته إلى مكانه من رأسها بعجلة وعصبية.

فكرت لحظة وترددت ولبثت في مكانها واقفة وهي حيرى. انهمرت دمعة أو دمعتان فوق البساط الأحمر القديم. وفجأة، ارتدت ديلا معطفها الداكن العتيق وقبعتها البنية الباهتة وخرجت، مسرعة، وهي تصفق باب الشقة من خلفها. هبطت في السلم، لتجد نفسها في الشارع. كانت عيناها تلمعان مثل لؤلؤتين صافيتين.

وأخذت تسير وتسير حتى توقفت عند لوحة كُتب فيها «السيدة سوفروني لبيع وشراء جميع أنواع الشعر». تشجّعت ديلا ودخلت المحلّ، لتجد نفسها أمام سيدة بدينة ذات وجه صارم النظرات والملامح. بادرتها ديلا:
-أريد أن أبيع شعري، فهل تشترينه؟!
قالت السيدة:
-نعم.. ارفعي قبعتك لأراه!
ورفعت قبعتها فتماوَج شلال الشعر الأسمر. قالت السيدة، وهي تتفحصه بيدها الخبيرة:
أشتريه بعشرين دولارا!
قالت ديلا:
-موافقة.. أعطني المبلغ بسرعة!

وقضت الساعتين التاليتين وهي تتجول باحثة في مخازن المدينة عن هدية لـ”جيم”. وأخيرا، وجدتها. لقد صنعوها من أجله وحده. كانت سلسلة من البلاتين، لمّاعة، بسيطة، جميلة ومناسبة. المعدن الجيد وحده، لا الزخارف الكاذبة، الدليلُ على قيمة الهدية وأهميتها. إنها ليست جديرة بـ”جيم” وحده، بل وبساعته كذلك، إنها تشبهه. فيها شيء من هدوئه وأصالته. ودفعت ثمنها، واحدا وعشرين دولارا. وعادت إلى البيت مستعجلة، وقد بقي معها سبعة وثمانون سنتاً فقط!

هذه السلسلة اللطيفة ستجعل جيم مشوقا لإخراج ساعته والنظر فيها أمام الناس بفخر واعتزاز، بينما كان قبل الآن يفعل ذلك خلسة وبحذر، بسبب الشريط الجلدي التافه الذي علّقها به، رغم أن الساعة نفسها كانت جميلة ورائعة.

وما إن وصلت ديلا المنزل حتى هدأ ما ساورها من نشوة العثور على الهدية المناسبة. ثم التفتت إلى ما تبقى من شعرها فأخرجت أمشاطها وأضاءت مصباح الغاز وراحت تحاول، عبثا، إصلاح ما خرب كرمُها وحبّها. إن الحب، أيها السادة، يتطلب من المحب تضحيات هائلة!

وبعد أربعين دقيقة من العمل، صار رأس ديلا يعج بخصلات غريبة يخيّل إلى من يراها أنها ليست امرأة، بل هي ولد مهمَل من أولاد المدارس. اتجهت إلى المرآة ونظرت إلى هيأتها الجديدة باهتمام. أحسست بالقلق وقالت في نفسها “سيقتلني جيم حينما يراني على هذا الشكل أو سيقول إنني أبدو مثل فتاة من فتيات الكورس. ولكنْ ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ ماذا يمكن أن أفعل بدولار واحد وسبعة وثمانين سنتاً؟!

في السابعة مساء، كانت القهوة جاهزة والمقلاة موضوعة على الموقد استعدادا لقلي شرائح البطاطس للعشاء!

ليس من عادة جيم أن يتأخر إلى هذا الوقت. وطوت السلسلة التي ابتاعتها وأخفتها في يدها وجلست قرب زاوية المائدة القريبة من الباب الذي يدخل منه. ثم سمعت وقع خطواته وهو يصعد الدرج، فاضطربت لحظة. كان من عادتها تأدية صلاة خافتة تردد فيها في نفسها الأدعية عندما تصادفها بعض المتاعب اليومية، مهما كانت طفيفة. وهمست يا ربي! أبتهل إليك أن تجعله يظن أنني ما زلت أبدو جميلة!

وفتح الباب ودخل جيم، وقد بدا عليه الجد والاهتمام وكان يبدو نحيلا مجهَدا. مسكين، إنه رب عائلة وهو لم يتجاوز بعد الثانية والعشرين من عمره ومعطفه قديم ويداه عاريتان! وما إن رأى ديلا وهو يفتح الباب حتى جمد في مكانه وعيناه تحملقان في رأسها بنظرات جامدة لم تستطع معرفة نوع التعبير المنبعث منهما. لكنها أفزعتها على أية حال. لم تكن نظراته تعبّر عن غضب أو عجب أو استنكار أو رعب ولا أي شيء مما كانت تتوقع، عدا أنه كان ينظر إليها بتلك النظرة الجامدة والخالية من أي تعبير محدد. وقامت ديلا واتجهت إليه قائلة:

-جيم، حبيبي! لماذا تنظر إلي هكذا؟! لقد قصصت شعري وبعته لأنني لا أستطيع أن أعيش العيد دون أن أقدّم لك هدية. شعري سينمو ويطول مرة أخرى. إنك لست غاضبا، أليس كذلك؟! صدّقني، لقد اضطررت إلى هذا التصرف، وأنت تعرف أنّ شعري ينمو بسرعة.. قل لي: عيدا سعيدا، يا عزيزي، ودعنا نكن سعيدَين.. أنت لا تعرف كم هي بديعة وجميلة تلك الهدية التي أحضرت لك!

أخيرا، عاد جيم من ذهوله، وعاد إليه وعيه، فسألها:

-ماذا؟! قصصت شعرك، أليس كذلك؟!

قالها، وفي نبرات صوته شيء من الإجهاد، كما لو لم يعرف بعد شيئا عن هذه الحقيقة المرة، خصوصا بعد هذه النظرات الجامدة والمجهود الذهني الذي رافقها.
قالت ديلا:
-نعم، قصصته وبعته.. ولكنْ أوَلست تحبيني، أنا على كل حال؟! إنني ما زلت أنا حتى بدون شعري.. أليس كذلك؟! ونقل جيم نظراته الجادة في أرجاء الغرفة وهو يردد، مشدوها:
-تقولين إنك بعت شعرك.. ها؟!
-قلت لك إنني قصصته وبعتُه.. إنه العيدُ يا جيم، ألا تفهم؟ كن طيبا معي، يا عزيزي، لقد بعته من أجلك..

ثم أطرقت برأسها إلى الأرض وهي تهمس مع نفسها قائلة “ربما استطاع أحدهم أن يحصي عدد شعرات رأسي”. وسكتت هنيهة، ثم قالت، وفي صوتها نبرات الصدق:

-ولكن لن يستطيع أحد أن يحصي مقدار حبّي لك! سأذهب لإحضار عشائك، يا حبيبي!

وأخيرا، عاد جيم من ذهوله فجأة، فأقبل على فتاته يحتويها بين ذراعيه ويضمّها إلى صدره بحنان. ثم أخرج، من جيب معطفه، عُلبة رمى بها فوق المائدة وهو يقول:
-لا تسيئي فهمي يا ديلا.. فمن ناحيتي أنا لا يهمني إن أبقيت على شعرك أم قصصته.. ولكنك عندما تفتحين هذه العلبة ستفهمين معنى ما أصابني من ذهول!

تناولت ديلا العلبة وفتحتها. فوجئت بما رأت، فاستولى عليها فرحُ طاغ. لكنها سرعان ما عادت إلى طبيعة الأنثى فتحولت إلى البكاء الهستيري ودموع تنهمر على خديها، حاول جيم، ب كل خبرته ومجهوده، مواساتها وتهدئة خاطرها. وجدتْ داخل اللعبة طاقما رائعا من أمشاط ومشابك لتصفيف الشعر، طالما تمنّت الحصول عليها.. أمشاط عاجية مرصعة الحواشي، غالية الثمن. لقد حصلت عليها أخيرا، ولكنْ بعد ماذا؟! بعد أن فقدت جدائل شعرها الطويل!

ونظرت إلى جيم بعينين مغرورقتين بالدموع وشفتين ارتسمت عليهما ابتسامة حيرى، وهي تقول:
-لا بأس.. فشعري ينمو بسرعة، يا حبيبي!

وتذكرت ديلا فوثبت، مثل قطة لسعتها جمرة، وصاحت:
-أوه.. لقد نسيت، انظر! ورفعت يدها بالسلسلة ذات المعدن النفيس وهي تعكس الشّعاع الصافي المنبعث من روحها الصافية، قائلة:

-قل لي أليست رائعة يا جيم؟ لقد بحثت في طول المدينة وعرضها حتى عثرت عليها.. ستجعلك الآن تنظر إلى ساعتك مائة مرة في اليوم.. أعطِني ساعتك لأرى كيف تبدو في هذه السلسلة!

ولكنّ «جيم» ألقى بنفسه على المقعد متثاقلا وشبك يديه خلف رأسه وابتسم قائلا:

-ديلا.. دعينا الآن من هدايا العيد.. إن هديتك وهديتي أجمل من أن نستطيع استعمالهما في الوقت الحاضر!

لم تفهم ديلا قصده، فسألته:
-ولكنْ ماذا تعني يا حبيبي؟!

أجابها:
-لقد بعت ساعتي لأشتري لك هذا الطاقم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *