عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 35

عندما “تَناقلنا”..

خلال امتحانات السّنة الثالثة حُكم عليّ بأن أجلس مباشرة خلف كرسيّ ماوكلي. هكذا، أبت الأقدارُ إلا أن تضعني في موقف أكرهه وأمقته: الغشّ في الامتحان! كنتُ متيقنا من أنّ أمراً ما سيحدث بمجرّد ما أُعلِن عن تقسيم الامتحانات، الذي جعل اسمَيْنا يَتجاوران على اللائحة.

كنّا نُمتحَن في مادّة تحليل النصوص. وكما يتّضح من اسم المادّة، كان موضوع الامتحان يتعلق بنص شعريّ يُمثل إحدى حِقَب الشّعر العربي (القديمة) متبوعاً بقائمة طويلة من الأسئلة، حسب باريمْ تنقيط تتفاوت مُؤشِّراته حسب أهمية السّؤال ومدى صعوبته.

كانت لديّ نُقط ضعف كثيرة في مشواري الدّراسي؛ من بينها أنني لم أستطع يوماً حفظ تفعيلات الشّعر العربي العموديّ ولا بحورَه، مديدَها وقصيرَها ورملها؛ وهلمّ مُحيطاتٍ وبحورا.. كان أول سؤال في القائمة -كالمعتاد- هو تحديد البحر والتفعيلة الخاصّيْن بالنص الشّعريّ موضوعِ الاختبار. لم أكنْ أعير السّؤال، في العادة، كبيرَ اهتمام؛ نظراً إلى مُعامِله الضّعيف في سلّم التنقيط ونظرا إلى أسبابٍ أخرى (أبتسم لها اللحظةَ وأنا أقرأ هذا النصّ قراءة أخيرة)..

كانت الأولوية للتحليل، أيْ قراءة النصّ والرّبط بين الجوانب الشّكلية واستجلاء كُنه الموضوع الذي تتناوله القصيدة. وعلى قلة اهتمامي بدراسة الشّعر العربيّ وطبقاته ورواده (الفطاحل منهم وعديمي “الفطحلة”) كانت لديّ قدرة جيّدة على التحليل وعرض المُقارَنات وطرح بعض الأسئلة أو الإشكالات، ثم الختم بإبداء وجهة نظر إذا كان سياقُ السّؤال يسمح بذلك؛ لهذا كانت أسهُمي طالعة في سوق بعض الباحثين عن مُنقِذ مُحتمَل في ساعات الامتحانات.

كان اتفاقنا يقضي بأن نُمارس نوعاً من المُقايَضة في امتحان تحليل النصوص: يُعطيني هو اسم البحرَ والتّفعيلة، وأكون أنا في الخدمة في البقية؛ بما في ذلك تحليل القصيدة، الذي يتطلب صفحتين على الأقلّ.. وإنْ هي إلا دقائقُ معدوداتٌ على انطلاق عدّاد الامتحان، في ذلك اليوم الذي صار بعيداً الآن في تجاويف الذاكرة المُثقَلة، حتى كان ماوكلي قد كتب اسم البحر و”فصّل” تفعيلتَه على ورقةٍ ودفع بها إليّ، في غفلة من الأستاذين المُكلفَين بالحراسة. كان كرسيّه يُحاذي كرسيَّ في حجرة الامتحان؛ ومن ثم فقد سهُل عليه أن “يتواصل” معي بثقة زائدة في النّفْس أكثرَ من اللازم، على ما يبدو، إذ انتهتْ حركاته الكثيرة إلى لفت انتباه أحد الأستاذيْن.

تظاهَر الأستاذ بالقيام بجولة في قاعة الامتحان، قبل أن ينتهيّ إلى مقعدَيْنا. كنّا نجلس في آخر الصّف. مرّ إلى جانبنا وهو يتفحّص في وجهَيْنا وفي أوراقنا فوق الطاولة. فجأةً، تناول ورقةَ وسخ ماوكلي وورقة وسخي. دَقّق في كلّ ورقة على حِدة وفي ورقتَي التّحرير النّهائي أمامنا، يُقارن بين الخطّين. وبعد أن تأكّدَ من شكوكه، انحنى على ماوكلي وسأله، وهو يشير إلى ورقة الوسخ:

-هل هذه الورقة لك؟
-طبعاً، أستاذ، هي ورقتي!

بصفاقة غريبة؛ لكنْ مُتوقعة ممّن يعرفونه، رد ماوكلي، مُتسلحا بكل قدرته على التّسْنطيحْ. لم تُقلقني قدرته على الكذب بتلك الكيفية المفضوحة بقدْر ما شغلني ما ينتظرني من مفاجآت مُحتمَلة جرّاءَ ذلك الموقف السّخيف.

رغم كلّ المَقالِب والحِيل التي تشرّبْناها خلال المراحل السّابقة من مشوارنا الدّراسي، كنّا قد وصلنا، في طور الجامعة، إلى نوع من النّضج يُؤهّلنا لأنْ نحاول، ما أمكننا، الابتعادَ عن وضع أنفسنا في مواقفَ مُثيرة للشّفقة أو التشفّي، من قبيل ما وجدتُ نفسي فيه ذلك اليوم، الذي بقيّ، بلحظاته الثقيلة، موشوماً في الذاكرة.

كان من غير الأنسب من ماوكلي، في نظري على الأقلّ، الإصرارُ على كذبته، المفضوحة بالقرائن الصّارخة، أمام الأستاذ المُراقِب، لاسيما أنه كان واحداً من الأساتذة الذين يحظَون بتقدير واحترام خاصّيْن بين صفوف طلبة الآداب. عندما بادرني الأستاذ بالسّؤال نفسه الذي واجهَ به صديقي قبلي، لم أستطع الالتفافَ على الحقيقة. صارحتُه قائلا، بكلمات غامضة ومُتلعثمة، إنّ الموقف سخيف وتأسّفتُ على ما وقع؛ ليَتوجّهَ رأساً إلى كرسيه و”المحجوزات” بين يدَيْه.

للحظاتٍ، ضاعتْ منّي جميعُ الكلمات والتراكيب التي هيأتُها، على امتداد أيام وأيام، لأواجه بها الامتحان. تَسيّدَ البياضُ والفراغُ مساحات الذاكرة. استحالت تلك القدرة على الكتابة عجزاً واضحاً وشللاً ذهنياً تامّاً. انفصل بي مجلسي عن صخَب القاعة وأجوائها. توقف الزّمن عن الدّوران وانعدم المكان. انحصر تفكيري في المصير الذي ينتظرني وصديقي ماوكلي، غيرِ المُهتمّ إطلاقاً بما يجري. تخيّلت الملحوظاتالتي سيُدوّنها الأستاذ في تقريره، الذي قد يكون آخرَ عهدي بمقاعد الجامعة! رميتُ قلم الحبر الجافَّ فوق الأوراق الفارغة أمامي واستسلمتُ لجميع أنواع الهواجس والتساؤلات: ماذا دهاني حتى أشارك في عملية “النّقيلْ” السّخيفة، التي أوصلتني إلى ما أنا عليه؟ لماذا لم أرفض الاقتراحَ الماوكليَّ من أساسه وأكتفِ بما في جعبتي من معلومات وأفكار؟ كيف سأواجه فضيحةَ الطرد وشوهةَ التقرير الذي سيُرفَع إلى عميد الكلية؟ ثمّ ما الذي جعلهم لا يختارون إلا ماوكلي بالذات ليُجلسوه أمامي!؟

انتبهتُ من دوختي على صوت طالبةٍ تبكي وتتوسّل إلى الأستاذ المُراقِب. كانت تجلس في الصّف المُحاذي. لم أنتبه إلى تفاصيل ما جرى؛ لكنّي فهمتُ، من توسّلات الطالبة وإشاراتها، أنّ ماوكلي هو السّبب! لم يكن يرتعد، مثلي، أو يفكر في العواقب. عندما أيقنَ أنّني لم أعد أقوى حتى على الكتابة في أوراقي الخاصة، بحثَ عن مُنقذ غيري..

كثر اللغط واشتدّت التوسّلات الباكية من الطالبة المسكينة، بينما بقي ماوكلي -كعادته- رابطَ الجأش، وكأنّ الكارثتين اللتين شارك فيهما -حتى تلك اللحظة- لا تعنيانه من قريب ولا من بعيد. حيّيتُ، في دواخلي، قدرتَه العجيبةَ على تحمّل ضغط المواقف مهما تكُنْ، وأنا أضحك على خيبتي، التي انتهتْ بي إلى حال يُرثى لها.

استغللتُ مرورَ الأستاذ المُراقِب إلى جانبي ورجوتُه، وأنا أذوب خجلاً، أن يتجاوزَ عن خطئي ذاك. نظر إليّ وطمْأنني قائلاً إنه لن يَعْتدَّ بـ”الحالة الأولى”! عدتُ إلى الأوراق أمامي وقد استرجعتُ بعضاً من قدرتي على التّفكير والاسترجاع. سارعتُ إلى تحرير الموضوع التحليليّ للقصيدة وأنا أسابق الزّمن، الذي أضعتُ منه الكثير وأنا أفكر في ما وقع في.. الحالة الأولى! أمّا ماوكلي فقد ظلّ، طيلةَ ما تبَقّى من الوقت المُخصَّص للامتحان، على حاله من البحث عن منقذ غيري أو منقذة؛ عن “حالة ثالثة”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *