عبد الرزاق بوتمُزّار

ح. 33

“وحشٌ” يحرس معبر النّجاح..

بنهاية اليوم الأخير من الامتحانات، انزاح الحمل الثقيل عن الأجساد المكدودة. سباقٌ من نوع آخرَ ندخُله وقد أنهيْنا الامتحانات الكتابية، خُصوصاً خلال الأيام الأولى: نتنافس في تحطيم الأرقام القياسية في عدد السّاعات التي نُمضيها ونحن نيام! ساعاتُ نومٍ طويلةٌ كنّا في أمسّ الحاجة إليها لإعادة بعض التوازُن إلى أجسادنا. نظامُنا الغذائي يكون، بدوره، قد تعرّضَ خلال فترة الاستعداد للامتحانات لتعديلات اضطرارية تتطلب منا عمليةَ تقويم عاجلةً، علّها تتدارك مُخلفات عاداتِ الأكل والشّرب السّي التي عوّدْنا عليها أجسادَنا المسكينةَ طيلة فترة الاستعداد.

الجوانب النفسية والعاطفية تكون قد تضرّرتْ، أيضاً، بفعل تلك الفترات الحرجة من حرمان النفس، الذي تتفاوت درجات ُتطبيقه وإلزام الذات به من طالب إلى طالب ومن طالبة إلى طالبة.

بعد أيام الخمول ومحاوَلة تدارُك ما فات على أصعدة مختلفة، نعود إلى التسلح بدفاترنا وأوراقنا استعداداً لفترة الامتحانات الشفهية؛ امتحانات نشرع في الاستعداد لها وكلّ واحد منا يُمنّي النفْس بأن تكون الألطافُ الإلهية قد شاءت له أن يُعلـَن ناجحاً في الاختبارات الكتابية. بعض الطلبة، الذين يُساورهم الشّك في النجاح، المأمول من الجميع، كانوا يعودون إلى المحاضَرات التي قد يُحكَم عليهم بـ”إعادتها” بعد إعلان النّتائج؛ دورة استدراكية تنتظر، في المُنعرج بين الاختباريْن الكتابيّ والشّفهي، جميعَ من خانتهم الذاكرة في الامتحانات الأولى.

كانت الامتحانات الشّفهية بالنسبة إلى طلبة السّنة الأولى في شعبة اللغة العربية وآدابها تتمحور حول شخص أستاذ واحد شكّل، على امتداد سنوات، فزّاعة حقيقية لأفواج الناجحين في الامتحانات الكتابية. كان احتمالُ الوقوع بين يدَي ذلك الأستاذ الذي لا يرحم يعني، بالضّرورة، تضاؤلَ الحظوظ، إلى أبعد الحدود، في الانتقال إلى الصّف الموالي.

اعتاد هذا الأستاذ الاستبداد بالرّأي وطرْح أسئلة غريبة على طلبته، الذين كانوا يتحوّلون في اختباره الشّفهية إلى حِملان وديعة، مَهْما تكنْ درجاتُ اعتدادهم بأنفسهم على امتداد الموسم.. قد يُوجّه لك سؤالا تعجيزيّا أو يكتفي بالإشارة إلى أنك لن تنتقل إلى القسم التالي، وكفى اللهُ الطلبةَ شرَّ الاستعداد! دون مُبرّر آخر سوى أنك “لا تزال صغيراً”، مثلاً، أو “أنك لستَ مُؤهلا لذلك الانتقال”، لسبب لا يعرفه إلا هو! وحتى إذا فارت الدّماء في رأسك جرّاء أسئلته أو ملحوظاته الاستفزازية وانتفختْ عضلاتك أمام المُستبدّ، فإنه لا يتأخّر في التلميح إلى أنه على استعداد لهذا الخيار، أيضاً، إذا جالَ في خاطرِك. كان يُعقّب على رفض واحد من الطلبة طريقتَه الفجّة في تقصّد إسقاط مَن يريد بأنّ بإمكان الطالب الذي يجد أنه مظلوم أن يُحدّد مكاناً وزماناً يختارهما إذا كان يرغب في مواجهة جسدية لحلّ سوء التفاهم عن طريق مواجَهة جسدية!

وفق ما سارت عليه الأمور خلال السّنوات التي مضت، كنتُ، لا محالةَ، سأقع بين يدي “الأستاذ /الوحش”، كما كان الطلبة يُلقبونه؛ فكلّ مَن كانت ألقابهم تبتدئ بالحروف الأولى للأبجدية يمُرّون عبْر السدّ المنيع الذي كان يمثله هذا الأستاذ، الذي كان يتفنّن بوحشية في إعلاء أسوار هذا السدّ في وجه المُتطلعين إلى نجاحٍ لم يكن يُحققه إلا من رحم ربّي، خُصوصاً مَن أوقعهم حظهم العاثرُ بين يدي كابوس الطلبة ذاك.

لكنْ، خلافاً لِما كان قد دَرَج عليه من اختيار حروف التّررتيب الأولى لتحديد لائحة الطلبة الذين يختارُهُم لكي يمارس عليهم استعلاءه و”حكرته” غيرَ المفهومَين، اختار في ذلك الموسم الجامعيّ البعيد أن يتصيّد ضحاياه من كلّ حروف الترتيب الأبجديّ؛ يبدأ باسم ثمّ يترك الاسم التالي ويختار الثالث. بقليل من الحظ، إذن، أفلتتُ من مُواجَهة مُباشِرة معه؛ أنا الذي لم أحضُر أيّاً من مُحاضَراته على امتداد الموسم الدّراسي؛ كان ممّن لم يُعجبوني خلال تجربة المُحاضَرة الأولى..

كانت واحدةً من اللحظات التي جسّدتْ حالةً خالصة من سُخريّة الأقدار؛ فبعدما كان بعضُ الطلبة يُذكّروننا، كلَّ يوم وكلّ ساعة، بحتمية مواجهة طغيان ذلك الأستاذ إنْ نحن أردنا الانتقال، مثلَهم، إلى القسم التالي، انعكست الآية ودون سابق إنذار.

لم يُعلَن عن التقسيم، الذي خالَف جميع التوقعات، إلا بعد ظهر اليوم الذي سبق الاختبارات الشّفهية؛ فعاش طلبة السّنة الأولى لحظاتٍ صعبةً ووجدوا أنفسَهم يتخبّطون في إشكال ترتيب الأولويات وإعادة جدولة أجندة الاستعداد للمواجهة المباشِرة المُرتقبَة بينهم وبين الأساتذة المُمتحِنين؛ فالذين استعدّوا منّا لموادّ مُحدّدة وجدوا أنفسَهم -تبعاً للتقسيم المُستجدّ- مُلزَمين بتبادل الأدوار مع الذين استعدّوا للموادّ التي رجّحوا أن تقودهم إليها “القرعة”، التي شاءت خلال ذلك الموسم أن تقلب جميع الأدوار والاحتمالات..
انتقلتْ تلك “الخْلعة” التي كانت قد استبدّتْ بنا مع قرب المُواجَهة الشّفهية إلى المُعسكر الآخر من الطلبة، الذين لم يكونوا -قبل إعلان التقسيم- يُفوّتون فرصة لتذكيرنا، شامتين، بما ينتظرنا من مصير غامض أمام جثة الأستاذ ودماغه المُخيفَين. اختلّت مَوازينُ الفرجة لصالحنا في آخر لحظة وأصبحنا نحن مَن نضحك ممّن ظلوا منّا يضحكون.
بدَا لي النجاحُ في السّنة الأولى قريباً جداً.

كان عليّ فقط أن أركّز على مُراجَعة دروس أساتذة الامتحان الشّفهي الذين استبعدتُهم في البداية؛ وإن كنتُ، في الحقيقة، قد حرصتُ، من باب الاحتياط، على إلقاء نظرات متباعدة على مُحاضَراتهم خلال فترة الاستعداد للامتحانات الشّفهية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *