الخضر الورياشي*

 

عبّر المفكر الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود، في أحد كتُبه، عن انبهاره العميق بالتراث العربي وعن أسفه واعتذاره لأنه كان يجهل قيمته في ما مضى من سنين عُمره، التي قضاها مُكبّا على وجهه في الفكر الغرْبيّ، وقال ما معناه إنه أُخِذ كثيرا بهذا التراث وإنه وجدَ فيه غنى وثروةً في شتى حقول العلم والمعرفة وإنه يوجد فيه ما يدلّ على سبْقِ العرب والمسلمين إلى كثير من الميادين، وإنّ كل ما نحتاج إليه هو أن نهتمّ به ونكتشف أسراره ونستخرج كنوزَه.

وليس من السخرية أن يُردّد البعض إنّ العرب والمسلمين كانوا سباقين إلى كثيرٍ من الأمور، فإنّ شواهدَ كثيرةً تقوم على ذلك. غير أنّ العربَ والمسلمين لم يواصلوا اجتهاداتهم ولم يستمروا في إبداعاتهم ولم يُطوروا آثارهم القديمة ولم يأخذوا بأسباب التطور الجديدة!..

أحببتُ أن أرسلَ هذه الكلمات بعد أن قرأتُ أنّ عالما عربيا اسمه زين الدين الآمدي، عاش في بغداد في القرن الرابع عشر الميلادي، سبق العالِمَ الفرنسي لويس يرايل، الذي عاش في القرن التاسع عشر الميلادي، في اختراع الحروف البارزة، ليتمكّن فاقدو البصر من القراءة بواسطة اللّمس!
فالعالِمُ العربي القديم فقَدَ بصره في صِغره، لكنّ ذلك لم يمنعْهُ من تحصيل العلم، حتى برزَ في ميدانه بين علماء عصره و”اشتغلَ بتجارة الكتب، فلمّا رأى في فقْدِ ناظرَيْه ما قد يعوقُه عن مواصلةِ تجارته تلك، تَدبّرَ أمره، فتوصّل إلى صُنع الحروف البارزة، ليجعل منها رموزا فوق غلاف الكتاب، يتعرّفُ بواسطتها على عنوان الكتاب وثمنه”. (1)

إذن، ونحن نقرأ هذا، نخلُص إلى أنّ الحروف البارزة للمكفوفين ليست من اختراع لويس برايل، وإنما من اختراع زين الدين الآمدي! لكنّ ما جرى في الزمن من حوادث جعلت الغرب يتغلّب ويسيطر ويهيمن، هو الذي طمسَ كثيراً من الحقائق وغطى كثيرا من فضْل العرب والمسلمين.

والعجيبُ أنّ هذه الطريقة في القراءةِ كانت معروفة قبل الآمدي بزمن؛ ففي القرن الحادي عشر الميلادي، عاش شاعر ضرير معروف جدا هو أبو العلاء المعرّي، قال في بيت شعري له:
كأنَّ مُنَجِّمَ الأقوام أعْمى *** لديه الصُّحفُ يقرأها بلمْسِ..

ومن خلال هذا البيت نَحْتملُ أنّ قراءة الأعمى باللمس كان معروفا للعرب على عهد المعري على أقلِّ تقدير”. (2) لكنَّ هناك نوعاً من “العمى” يصيبُ بعض القلوب وليس الأبصار، فيطمسُ الحقائق ويجعل الأجيالَ تعيش في ظلام من الجُحود والإنكار.
***
(1) و(2): ردود إسلامية في قضايا معاصرة: الدكتور إبراهيم عوضين

***
*كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *