القنيطرة :محمد الجلايدي

 يَجمع بيننا التقارب في السن. 

وتُوَحِّدُنا الميولات والطموحات والدراسة . ويضُمُّنا الإنتماء إلى الدرب. 

لذلك ، وبُعَيْد العودة من يوم التحصيل ، نلج منازلنا ، نأكل لقمة، ثم نتحلَّـق في رأس الزقاق للعزف على القيتارة أوحكي النوادر ، أو هما معا . وعندما نسترد بعضا من راحتنا، نجتمع ، بعد طعام العشاء ، في منزل واحد منـا، لنتعاون 

على تفكيك طلاسم الدروس . 

وإذا تعبنا، نحول الجلسة إلى سمر وأنس . ولا نفترق إلا عندما نسمع صوت ارتطام صناديق القمامة بأرض الزقاق ! فنصيح بصوت واحد : 

-« هاهو ذا قد أتى ! » 

ثم ننفجر ضاحكين ضَحِكَ استغراب وتعجب !!

(…)

 سميناه ( قَلَّـةْ لَـحْـيا ) بِلُغتنا المحلية ، ومعناها بالفصحى ( قِلّـةُ الحياء ) . 

ولأن اللقب الجديد يطابق سلوكه العدواني ، فقد انتشر على الألسن في الزقاق والدرب والأحياء المجاورة ، ونسي الناس لقبه الرسمي في الحالة المدنية ! يستيقظ بعد منتصف النهار ، وأول ما يبدأ به يومه توزيع السب والشتم على الجيران ! وإذا فشل في استجلاب ردات الفعل ، ينخرط في النميمة والدس لإذكاء الخصومات ! وهو ما لم يفلح فيه ولو مرة ! لذلك ، يعود ليلا ، بعد أن يعييه التسكع ، فيصب جام غضبه على صناديق القمامة، التي يضعها الجيران أمام أبواب المنازل. 

يركل الصندوق برجله فيتشتت ما بداخله ! تخرج أمه، فتمسك بتلابيبه لتدخله إلى المنزل مرفوقا بولولاتها ! تغلق عليه الباب ، وتخرج لتشرع  في جمع النفايات وردها إلى الصناديق ! وكنا نساعدها ، قبل أن نتفرق ، كل إلى بيته !

(…)

لكن هذه الليلة خرجت عن المألوف في علاقة ( مّي ) عزيزة بابنها (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) ! 

لأنها لم تولول كما العادة ، بل صاحت : 

-« وناري جبتيها فراسك آلمسخوط » ! 

تبادلنا النظر ، وخرجنا مسرعين . 

كان (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) ملقى على الأرض وسط كثافة القمامة المنتشرة حوله ! حملناه ودخلنا به إلى المنزل . ولما وضعناه على اللحاف، أدركنا أن رجله قد شُلتْ عن الحركة (…)

 

لم يكن صعبا علينا ردعه . 

لكننا نحترم نهي كبار الدرب . « فكلمتهم لا تسقط على الأرض » . احتراماً وتقديراً ، وعملاً ب « أعراف الأصول » : الكبار يصونون الصغار  ، والصغار يحترمون الكبار ! وهؤلاء لما بلغهم خبر إصابته ، ردد بعضهم :-« صياد النعام يلقاها يلقاها »! 

وردد البعض الآخر تعاطفا مع ( مّي ) عزيزة :

-« الله يكون في عون ذيك المسكينة »!(…)

  

بات (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) تلك الليلة مشلول الرجل ! وبعد ضحى اليوم الموالي ، استقدمت ( مّي ) عزيزة ( الفقيه شمهروج ) !  شيخ بدين ، قصير ، جاحظ العينين ، ملتحٍ ،  يتقدمه بطنه، ويده اليسرى تعبث بحبات مسبحة .. 

ذاع صيته في أحياء المدينة « كمعالج  للوسواس» ، و« مبطل للسحر »، و« مبطل للـٓمــس بالعين» ، و« مبطل للمس من الجن »!

  طلبت منا ( مّي ) عزيزة أن نساعدها ، فدخلنا . وشمهروج لم يرفض ، بل استحسن الفكرة ، بتحريك رأسه . 

أمرنا أن نمدد (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) على الحصير ، وأن نزيل سرواله ، ففعلنا . 

وأمر ( مّي عزيزة ) أن تحضر إناء زيت الزيتون ومِجْمَـراً ، ففعلت وهي تصيح :

-« التسليم ، التسليم » !

(…)

  أمسك ( شمهروج ) بيده اليسرى رجل (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) المصابة ، يغطس اليمنى في الزيت ، يدفؤها على الِمجْـمَـر ، ثم يشرع في الدلك . وأثناء ذلك كان يقرأ القرآن .

 ولما فرغ من القراءة ، انخرط يحاور الجني بما يشبه المونولوج ، لكن بصوت عالٍ ! 

يتكلم ويجيب :

-« جني شـر أنت أم جنـي خير ؟ »

-« جنـي خير . »

-« ولماذا اعتديت على هذا المسكين ! »

-« هو من اعتدى علينا . »

-« وماذا فعل ؟ »

-« أفسد عرس ابنتي الذي أقمته لها في صندوق القمامة»

-« آه ، فهمت “ للجني ، كي يسامح (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) على فعلته الشنيعة ، خاصة وأنه لم يكن يعلم أن في صندوق القمامة عرسا . 

ولكي يلين قلب الجني ، وعده ( شمهروج ) بحمل سكان الحي على احترام كل حقوق الجن ، كالحق في الوجود ، والحق في الحياة بكرامة ، والحق في الفرح وإقامة الأعراس .. وإذا صدر أي سلوك مشين عن أي كان ، سوف لن يتدخل . 

لحظتها اقترب ( شمهروج ) من (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) ورماه بصفعتين قويتين ، صاح على إثرهما المسكين بأعلى صوته ! و( مّي ) عزيزة تردد :

-« التسليم ، التسليم ..»!

ولما حرك (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) رجله المصابة ، زغردت ، فأسرعت نساء الدرب والحي ، لتهنئتها وهن يرددن تباعا:

-« على سلامتك !»

(…)

 شفيت رجل (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) من التشنج العضلي ، لكن نساء الزقاق أصبن بمس هذا السؤال : -« ماذا سيفعل (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) هذه الليلة ؟! هل سيكرر عدوانه المعهود على صناديق القمامة ؟! » لذلك سهرت نساء الزقاق خلف نوافذ المنازل ، ينتظرن عودته ! أما نحن ، فكان سهرنا حول فك طلاسم الدروس ، مرفوقا بالفضول نفسه ، كي نعرف ما الذي سيحصل ، في أول ليلة بعد شفاء (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) !

(…)

  سمعنا الوشوشات ، فأدركنا عودته وقلنا بصوت واحد : 

-« هاهو قد أتى !» 

هرعنا إلى النوافذ ، كي لا يفوتنا المشهد من أوله : 

اتجه (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) إلى أول صندوق للقمامة في الزقاق . انحنى عليه . أزال الغطاء برفق . ثم قال :

-« الله يجعل كل شيء مبارك مسعود ! »

رفع غطاء الصندوق الثاني برفق ، وقال :

-« إذا كان العرس لبنتكم عقبى لولدكم ! »

رفع غطاء الصندوق الثالث برفق ، وقال :

-« الله يجعل لياليكم أفراحا في أفراح ! »

واستمر على هذا المنوال ، إلى أن أكمل زيارة كل صناديق القمامة بالزقاق . بعدها ، طرق الباب ، ففتحته ( مّي ) عزيزة ، من دون ولولات (…) 

  وفي الغد انتشر الخبر من الزقاق إلى الدرب ، ومنهما إلى الحي ! فعمت الفرحة مرفوقة بالإعجاب ! وصار ( شمهروج ) بطلا في النازلة ! لأنه نجح في استجلاب التربية على احترام حقوق الجن ، لأكبر منتهك لهذه الحقوق ! وبما أن (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) لم يوقف عدوانه على الجيران ، اجتمع  كبار الزقاق والدرب والحي ، للتداول في الأمر ، فأجمعوا على انتداب لجنة من « العقلاء » للقيام بالمساعي ، لدى ( الفقيه شمهروج ) ، كي يواصل جهوده ( الحميدة ) لحمل (  قَلَّـةْ لَـحْـيا ) على احترام حقوق الناس !!!..

                                      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *