رشيد نيني

وأنا أقرأ في ثنايا تفاصيل قانون مالية 2021، حيث يختفي الشيطان، والذي ينص على فرض ضرائب جديدة لم تستثن هذه المرة حتى الماحيا، في مقابل منح هدايا ضريبية لرجال الأعمال والمنعشين العقاريين، تذكرت حوارا مهما وشيقا وعميقا في أحد فصول مسرحية “المارد الأحمر” لكاتبها “أنطوان رولت”، يدور بين “مازاغين”، كبير الوزراء في حكومة الملك الشاب لويس الرابع عشر، المشهور بلقب “الملك الشمس”، و”كولبير” الطامح لوضع يده على وزارة المالية، يشرح بوضوح جد معاصر أسباب استهداف العثماني للطبقة الوسطى واتكاله على ضرائبها لكي يعوض بها عجزه المزمن عن اقتراح حلول أخرى غير وضع يده في جيوب الموظفين والطبقة المتوسطة.

وفي ثنايا الحوار يشتكي “كولبير” من كونه لم يعد قادرا على دس يده في جيوب المواطنين، وأنه ينتظر من المسؤول عن التموين أن يشرح له كيف يمكن للدولة أن تستمر في الإنفاق في وقت تغرق فيه وسط الديون حتى الأذنين.

فقال له “مازاغين”:

– عندما يكون المرء مجرد مواطن، ولا يجد مالا يدفعه مقابل ديونه، فإن الوضع الطبيعي هو أن يذهب إلى السجن، لكن عندما يتعلق الأمر بالدولة فالأمر يختلف. إذ لا يمكننا أن نرمي الدولة في السجن، وهكذا تستمر الدولة في الاستدانة أكثر فأكثر، كل الدول تصنع ذلك.

ويبدو أن “كولبير” لم يفهم قصد رئيسه “مازاغين”، فقال متسائلا:

– ومع ذلك نحتاج إلى المال، فكيف يمكننا الحصول عليه إذا كنا قد فرضنا على الشعب جميع الضرائب الممكنة والمتخيلة؟

هنا أجاب “مازاغين”:

– الحل بسيط، نخلق ضرائب جديدة.

فانتفض “كولبير” وقال:

– لا يمكننا فرض ضرائب جديدة على الفقراء، فهم يرزحون تحت ضرائب كثيرة.

وكم كان مفاجئا بالنسبة لكولبير أن “مازاغين” اتفق معه في هذا الرأي، وقال له إن فرض المزيد من الضرائب على الفقراء أمر غير ممكن.

– الحل إذن هو فرض الضرائب على الأغنياء.

قال “كولبير” وهو يعتقد أنه أصاب الهدف، لكن “مازاغين” عالجه بجواب لم يكن ينتظره:

– ليس الأغنياء من يجب فرض المزيد من الضرائب عليهم، لأن فرض الضرائب على الأغنياء يجعلهم يتوقفون عن الإنفاق، فعندما ينفق مواطن غني فهو يضمن عيش مئات الفقراء.

وهنا أعطى “كولبير” حماره وطلب من “مازاغين” أن يشرح له كيف يمكن ملء صناديق الدولة الفارغة دون فرض ضرائب جديدة على الفقراء والأغنياء.

فقال “مازاغين”:

– هناك الكثير من الناس ليسوا فقراء وليسوا أغنياء يوجدون بين الاثنين، يتعلق الأمر بمواطنين فرنسيين يشتغلون ويحلمون بأن يصبحوا ذات يوم أغنياء ويخشون أن يتحولوا إلى فقراء، هؤلاء هم من يجب استهدافهم دائما بالمزيد من الضرائب، لأن مواطني هذه الطبقة الوسطى بقدر ما تأخذ منهم بقدر ما يضاعفون جهدهم في العمل لتعويض ما تأخذه الدولة منهم، إنهم الاحتياطي الذي لا ينفد.

إن ما قاله “مازاغين” للمسؤول عن التموين قبل أربعة قرون، في وقت كانت الدولة الفرنسية تعيش إحدى أعمق أزماتها المالية، هو نفسه ما قاله بنكيران رئيس الحكومة السابق عندما قال أمام البرلمانيين إنه لم يفرض ضرائب على الأثرياء خوفا من توقيف عجلة الاقتصاد، ولذلك اختار المغاربة الذين لا يوجدون ضمن شريحة الفقراء مثلما لا يوجدون ضمن شريحة الأغنياء، أي أنه استهدف ما أسماه “مازاغين” الاحتياطي الذي لا ينفد، وكذلك يصنع خلفه العثماني اليوم.

رئيس الحكومة السابق ورئيس الحكومة الحالي يعرفان أن هذه الطبقة هي الضرع الطبيعي الذي يجب حلبه كما ينبغي، وبقدر ما يتعرض هذا الضرع للحلب بقدر ما يدر المزيد، لأن المحرك المدر للحليب عنده هو الخوف من الفقر والطمع في الثروة.

أما في تراثنا العربي الإسلامي فهناك حكاية تقدم نموذجًا آخر لما يمكن القيام به عوض اللجوء إلى جيوب الطبقة المتوسطة لملئ خزائن الدولة الفارغة.

يحكى أن والي دمشق أسعد باشا كان بحاجه إلى المال للنقص الحاد في مدخرات خزينة الولاية، فاقترحت عليه حاشيته أن يفرض ضريبة على صناع النسيج في دمشق،

فسألهم أسعد باشا :

– وكم تتوقعون أن تجلب لنا هذه الضريبة؟

قالوا له من خمسين إلى ستين كيساً من الذهب.

فقال أسعد باشا:

– ولكنهم أناس محدودو الدخل فمن أين سيأتون بهذا القدر من المال؟

فأجابوه:        

– يبيعون جواهر وحلي نسائهم يا مولانا.

فقال أسعد باشا:

– وماذا تقولون لو حصلت على المبلغ المطلوب بطريقة أفضل من هذه؟

فسكت الجميع.

في اليوم التالي قام أسعد باشا بإرسال رسالة إلى المفتي لمقابلته بشكل سري، وبالليل وعندما وصل المفتي قال له “عرفنا أنك ومنذ زمن طويل تسلك في بيتك سلوكاً غير قويمـ وأنك تشرب الخمر وتخالف الشريعة، وإنني في طريقي لإخبار إسطنبول، ولكنني أفضل أن أخبرك أولا حتى لا تكون لك حجة علي”.

فبدأ المفتي المفجوع بما سمع يتوسل ويعرض مبالغ مالية على أسعد باشا لكي يطوي الموضوع، فعرض أولاً ألف قطعة نقدية فرفضها أسعد باشا إلى أن تم الاتفاق على ستة آلاف قطعة نقدية.

وفي اليوم التالي قام باستدعاء القاضي وأخبره بأنه يعلم بأنه يقبل الرشوة ويستغل منصبه لمصالحه الخاصة وأنه يخون الثقة الممنوحة له، وهنا صار القاضي يناشد الباشا ويعرض عليه المبالغ كما فعل المفتي، فلما وصل معه إلى مبلغ مساو للمبلغ الذي دفعه المفتي أطلقه.

بعدها جاء دور المحتسب والنقيب وشيخ التجار وكبار أغنياء التجار.

بعدها قام بجمع حاشيته الذين أشاروا عليه أن يفرض ضريبة جديدة لكي يجمع خمسين كيساً فقال لهم:

– هل سمعتم أن أسعد باشا قد فرض ضريبة في الشام؟

فقالوا:

– لا ما سمعنا.

فقال:

– ومع ذلك فها أنا قد جمعت مائتي كيس بدل الخمسين التي كنت سأحصلها بطريقتكم.

فتساءلوا جميعاً.

– كيف فعلت هذا يا مولانا؟

فأجاب :

– إن جز صوف الأكباش خير من سلخ جلود الحملان.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *