عبد الرزاق بوتمزار
حزين ومقرف أن تبدأ يومك أو تُنهيه بخبر وفاة صحافي، وأيّ وفاة؟ انتحار..
هل قلتُ “خبر”؟ مع الأسف، ستصير هذه النهايةُ المأساوية التي اختارها الصحافي “ر. ب.” لقطع أيّ صلة له بحياتنا مجرّدَ “خبر” للاستهلاك اللحظي، ثم يعود كل واحد منا إلى ما كان عليه، في انتظار الانتحار اللاحق..
“Au suivant” ستصرخ الظروفُ الـ”قاتلة” في وجوهنا، شاهرة سيوفها اللامرئية، وقد عدنا إلى قواعدنا (غير) سالمين، بعد النهاية التراجيدية لرشيد. كأنه، في ظلّ ما نعرف عن المطبخ الداخلي للسلطة الرابعة، ذكّرَنا بـ”خيار” الانتحار.. يا آلهي! مَن منكم لم يفكّر -يوما- في الانتحار، أصدقائي -صديقاتي الصّحافيين؟ (ولن نسألكم تبرير أجوبتكم، تفاديا للإحراج)..
نعم، سيصير “ر. ب.” “خبرا”، هو الذي عاش من أجل نقل الأخبار. بل إن البعض سيستعرضون “السّيلفياتْ” مع الرّاحل، طبعا قبل أي حديث أو سؤال عمّا أعطى المهنة وعمّا أعطته. آخرون سيُطنبون في الحديث عن “مناقبه وعطاءاته وتضحياته من أجل إشعاع الصحافة المحلية وتطويرها و…” إلى آخر المعزوفة التي اعتدنا بعد نعي كلّ إعلامي أو فنّان أو أديب في هذه البلاد الاستثنائية.. لماذا لا نحتفي ببعضنا البعض إلا بعد نواح البوم في خيام العزاء؟!..
رشيد مات، في كل الأحوال. أنهى أيامه -لأسباب يعرفها هو وحده- ورحل عن دنيانا إلى الأبد. فماذا عرفنا عنه وهو حيّ بيننا، يُرزَق ويكد ويجدّ ويبحث عن… “خبر”؟ مَن استمع إليه منا وأعطاه الكلمة ليُسمع صوته ومحنته قبل أن يشتدّ الخناق على عنقه وَ… يصير “خبرا” تافها تُعيد المنصّات والمنتديات والمواقع اجتراره بالصيغة الوحيدة ذاتها: رشيد مات.
لا أحد ممّن سينشرون “خبرك” يا رشيد سيجشّم نفسه حتى تغيير صيغة الخبر الأول قبل أن يُعيد نشره! ما كايْن غير كوبّي كُولي، وها هو “خبر” أحد أبناء المهنة قد “طلع فْ الجّورنالْ”…
أين كنّا حينما كان هنا، بيننا، يكلمنا ويتقاسم معنا الهواء والفضاء والزمان ودْوايره؟! مَن انتحر حقيقةً، نحن أم رشيد؟
آه، نسيت.. كنّا “منشغلين” بمقتل الصحافي السعودي، الذي لا يعرف كثيرون منا حتى كيف يُنطق اسمه.. كأنّ رشيد صفعنا جميعا وبصق في وجهنا. رشيد لم يحتجْ إلى رصد أو ترصّد وتعقّب واستدراج وتصفية وإخفاء جثة و… “صفقات” قبل التصفية وأخرى بعدها… رشيد لم يحتج إلى كلّ هذا، ولا حتى إلى قتَلة. قتلةُ رشيد من نوع آخر، غير بشريين وغير مرئيين حتى.. تكالبوا عليه، طوال كلّ هذه المدة، وقاومهم بكلّ ما أوتي قبل أن يستسلم، في نهاية المطاف.
ربّما أراد رشيد أن يقول لنا: انظروا إلى الأمْداء القريبة قليلا. لا تُرهقوا أنفسكم كثيرا وتُجهدوها “السّفر” بعيدا عبر الأسلاك من أجل “نسخ” آخر “أخبار” خاشقجي ولصقها في منصّاتكم كأنكم أتيتم سبْقاً وفتوحات.. إليكم “خبرا” عن صحافيّي الهُنا. خذوه ووزّعوا دمه بين قبائل جرائدكم، التي تقتات من الفضائح والمآتم والمآسي، ومواقعكم والمنصّات. هذي دمائي فوّارة بحرارة الصّدمة من واقع يدفع صحافيا إلى… إنهاء حياته بنفسه. سارعوا إلى أجهزتكم وهواتفكم وامدحوني واذكروا كل خصالي وعدّوا منّي المناقب. كفى! قد متّ الآن، فأين كنتم حين كنتُ أموت في اليوم الواحد مرّات بالآلاف حتى تشحذوا أقلامكم لكيل المدائح وتعداد المناقب؟!
وحده “ر. ب.” عرف الدوافع الحقيقية التي جعلته يُنهي حياته بيننا، لكننا جميعا كنّا نعرف ذلك القاتل المتربّص به على درب مهنة ما فتئت، كما قال أولون، تأكل أبناءها، فعلى مَن الدور؟!
رحم الله السّي “ر. ب.” وأحسن إليه وعوّض أهله صبرا وتحمّلا وَ… كان الله في عوننا في متاهات هذه المهنة الـ… قاتلة!