عبد الرزاق بوتمزار

ح. 109

صحف في شارع لا يَقرَأ..

 

صار الزّمن غيرَ الزّمن. تكاد عقاربُ السّاعة تتوقف، رافضة أن تُواصل دورانها الأبديَّ إلى الأمام. لا شيءَ يتغيّر أو يُنبئ بأفق أو أملٍ في غد. كنتُ أمضي السّاعات والسّاعات وراء “لورْديماتّور” العتيق، أدبّج مكتوبي في صفحات الأزمنة الجديدة، في انتظار زبون يقطع عليّ عُزلتي الشّاعرة، والمكانُ للتّجارة.

يطلب زبونٌ دفترا أو قلماً أو خدمة، فأضطرّ إلى مُغادرة مجلسي كي أبيعه ما يُريد. أمّا إذا وقع اختلافٌ في الثمن أو لمْ يجد ما كان يبحث عنه وانسحبَ وقد أضعتُ معه الوقت “فابورْ” فلا بأسَ أن أشيّعه ببعض التعليقات السّاخطة، ولو في دواخلي. أعود إلى الجهاز، في الزّاوية، وأواصلُ بثـَّه أفكاراً وكلمات.

صرتَ مُشغّلَ نفسك، إذن. هامشُ الحُرّية صار يسع كاملَ النهار. لك أن تفتحَ الدّكان أو تتكاسل في البيت أو في أيّ مكان تختار، فأنتَ من ستُؤدّي ضريبة الكسل، في النّهاية. التزمتُ، ما أمكنني، الجدّية والتفاني. كنتُ أستشعُر في دواخلي قوة غريبة تدفعُني إلى العمل وعدم الاستسلام لقبضة اليأس، المُتربّص بقوة وتَحفّز. رغم كلّ ما يُعيق المسير، قاومْ، أيّها الحالم، مقصوصُ الجناحين، قاومْ ذلك البونَ بين شساعةِ إبصار العين وقِصَر ذات اليد. عاندْ زمناً تاجراً لا يعترفُ بشاعر. تخلصْ مِن عاشقِ الكلمات في دواخلك وسُلَّ الآلة الحاسبة، فالزّمنُ أرقامٌ ودراهم؛ لـكنْ.. مَن قال إنّ الشّاعر قد يصير، يوماً، تاجراً هو شخص كاذبٌ بلا شكّ. الشّاعر كائنٌ رمزيّ، حالم، له لغة أخرى غيرُ الحسابات ومُعادَلات الرّبح والخسارة، والتّاجر دراهمُ، في نهاية الحساب.

كان علي أن أقتلَ الشّاعر فيّ وأتقمّص التّاجر. كثيرون فعلوا، أنا؟ لم أستطعْ.. هلْ كان هدفي الحقيقي من تدبّر أمرِ ذلك الحاسوب، ثمّ وأنا أقصدُ مبنى البلدية لاستخراج وثيقة تعترف بي “كاتباً”، هو أن أحرّر عقوداً بئيسة لأشخاص بؤساء؟ أكنتُ صادقاً مع نفسي؟ وهل كان دافعي، فعلاً، وأنا أصرّ على فتح مكتبة على مقاسي ومقاسِ المكان والزّمانِ، بدلَ أن أبيعَ البيضَ، كما اقترح صهري، ذلك التّاجر، هو أن أربح، كما التجّار يربحون؛ أم هي لحظة استسلام تامّ لهذي الغواية اللعينة: الكتابة، ولو للعُموم؟ وكلّ هذه الأوراق والجرائد والبطاقات والدّفاتر، أهيّ للبيعِ أم لمُجرَّد تأثيثِ الدّكان بما يذكر بامتياز الحلم الأزليّ في رأسك الصّغيرة العنيدة: أن تصير كاتباً؟!

رغم أنّ ذلك المُوزّعَ البائسَ كان يُصرّ على ألا يجلبَ لي أكثرَ من عشرة عناوينَ في الأقصى، فقد كان ما يصلني من المطبوعات يسمح لي بأن أمارس عادة أخرى من عاداتي، السّيّئة بمعيار الأزمنة الرّديئة: قراءة الصّحف.

عرف، البائسُ، منذ اليوم الأول، أنّ الرّبحَ الضّئيل الذي سأجنيه من تجارة الصحف في شارع لا يقرأ لا يهُمّني في شيء. لا شكّ في أنه لم يجدْ فيَّ ذلك التّاجر الذي يريد، فقرّر ألا يترك لي غيرَ ما قد يُشبع فضولي الصّباحيّ: معرفة جديد ما يجري ويدور في المملكة غيرِ القارئة.

يتطلع إليّ، والسّيجارة الرّخيصة بين شفتيه، يمتصّ رحيقها القاتلَ وهو يُحاسبُني حول مبيعات الأمسِ، قبل أن يترك لي النّسخ اليومية ممّا تُخْرج مطابع مُدن المركز البعيد. يسحب درّاجته البئيسة، الضّئيلة مثل جسده المنخور قهراً ودخاناً، ويجري خلفها، ثمّ حين يشتغل مُحرّكها الضّئيل، بصوته المُضحِك، يقفز فوق مقعدها، الصّغير مثلَ قط هزيل من “عامْ الجّرادْ”، ويختفي في زحمة الشّارع.

الصحف.. المُهمّ في كلّ ما يجري بالنسبة إليّ هو أن أقرأ صحف الصّباح وأنا أستمع إلى سورة طه، الأثيرة عندي. أجلس، بعد ذلك، إلى الحاسوب الصّغير، أبُثه، على إيقاع مُوسيقى مختارة، أفكاري وعقودَ الرّهن والتّنازلات البئيسة، بين حين وحين. لا يهمّ أن أبيع أو أن أشتريّ أو أن أكدّسَ الدّراهم. صحيحٌ أنّني كنتُ أطمح إلى أن أكوّنَ نفسي، كما يقولون، وأنا أفتح المحلّ الصّغير، لكنْ كنتُ أعرف، في قرارة النّفس، أنْ لم أخلقْ لغير القراءة والكتابة؛ الدّليل؟ لو كان العكسُ لكنتُ طاوعتُ الخبيرَ في دروب التّجارة واستثمرتُ في بيض الدّجاج وبيض كلّ الدّواجن المُتاحة في سوقٍ تناسلت فيها صنوفُ الدّواجن والمُدجَّنين!

هل هي غواية التجربة الأولى، مع الكِتاب الأول الذي يقع بين اليدين ذاتَ طفولة بعيدة؟ ثمّ الخربشة الأولى، فالثانيّة فالعشرات، إلى أن انتهى بك المطاف داخل مكتب “الجريدة الأولى”، في مملكة يقرأ فيها قليلون؟ ثمّ، لاحقاً، والجريدة تنشر أولى قصصك؟ كان أصلَ داء الابتلاء: لن أرضى عن نفسي تاجراً في غير حضرة المقروء والمكتوب؛ ذاك كان شرطي، غيرَ المكتوب، كي أدخل خانة المُتاجِرين؛ وهي، طبعاً، أنَفة الجامعيّ فيّ: كيف تضيع كلُّ هذه الأماني بين حساب الرّبح والخسارة، وسط أكوامِ البيض الخاسْر؟!

ربحتُ نفسي في تلك التّجربة، وخسرتُ أشياءَ وأشخاصاً. فلتعذروني، كنتُ تاجراً فاشلا؛ كيف يكون شاعرٌ تاجراً!؟

أشعر بالعالم بصيغة أخرى، بنبضٍ آخرَ. لم أخلق لغير القراءة والكتابة، جسداً وكيانا وتكوينا وتأثراً ومُحيطاً وتجربة واختيارا، بل قدَراً. فاكتب، أيّها الغيوانيّ والأزمنةُ تجارة، اكتبْ خواطرَ أو عقودا والتزامات. ماذا تبغي فوقَ هذا الامتياز: قد قرأتَ صحف الصّباح في شارع لا يقرأ، في مملكة غيرِ قارئة، وأمامك جهازٌ وصفحاتٌ بيضٌ من زمنٍ آخر؛ فاكتب واكتب، ثمّ اكتب..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *