عبد الرزاق بوتمزار

ح. 108

الكِتاب الإلكتروني وأزمنةُ الصّعاليك

ربّما كانت تلك من المرّات القليلة التي كان فيها “سديداً” رئيسُ الشّعبة وهو يُعطينا، في أحاديثه عن دراساته ومُعايَناته في باريس -الأنوار، بين الدّرس والدّرس، فكرةً عن الأشكال والصّيّغ المُستقبلية للكِتاب، خُصوصاً حين ذهب إلى حد الحديث عن شكل سمّاه “الكتاب الإلكترونيّ”! عن أيّ إلكترون تتحدّث يا هذا؟! هُنا، الآن، في هذا الشّارع، في هذه المدينة، كمْ أتمنّى أن أصدّق تنظيراتِك التي جئتنا بها من تكويناتك وسفرياتك، نقلاً عن مرجعياتك من الأعلام الفرنسيين. فأنا لا أرى إقبالاً على الكتاب، ولو في صيغة الورق، فكيف بالإلكترون!؟

كان يصعُب عليّ، أنا طالبُ الآداب، الذي قرأتُ من الأدب العربيّ قصائدَ منذ أزمنة الصّعاليك، مُروراً بمُعظم الحِقب التي ازدهر فيها ديوانُ العرب، والتي جاور خلالها السّردُ في لغة الضّاد والقريضُ قعورَ الحضيض. أنا الذي طالعتُ قصصاً وروايات، كان آخرَ ما طبع الذاكرةَ منها، ضمن عطاءاتِ كثيرين، إبداعُ عبد الرّحمان منيف، المُستشرف والمُبهر. ثم قرأتُ، في مرحلة لاحقة، عن تخطيط فرنسا -الغربِ لتطوير الكتاب الإلكترونيّ.. كان يصعُب عليّ أن أتخيّلَ، ولو ليومٍ واحد، أنْ أنتهيَ إلى دكان ضيّق، في شارع خلْفيٍّ، في مدينة لاهثة، في أزمنة مقصيّة من أيِّ حظ من كلّ ذاك البذخ النّظريّ الذي أشبعني به أولئك الأساتذة الأجلاّء الذين تتلمذتُ على مَعارفهم ومَداركهم. أخط مكاتيبَ ومُراسلاتٍ لأشخاص غير قارْيينْ، أو أبيعُ كتباً مُهترئة لجيلٍ ما عادتْ عنده رغبة في القراءة، فيما الغربُ مُنكبٌّ على تطويرِ أساليبَ جديدة للكتاب على صحائف الإلكترون!

لكنّ اليومَ الواحدَ الذي لم أكن أتخيّل نفسي قادراً على أن أمضيَه في مثل هذا الدّكان صار أياماً طويلة اخترتُ خلالها -أو كُتِب عليّ- أن أقضيّها كاتباً عُموميّا، أستعين ببيع كتب مدرسية (ورقيّة) أنا المُتخرّج من جامعة حدّثونا فيها عن بدايات تصنيع الكتاب الإلكترونيّ في زمنٍ ما يزال البعضُ يُسمّون جهاز الكمبيوتر “أنترْمِيتْ” أو في أفضل الأحوال “لورديماتّورْ”!

ولأنّني من قبيلة الصّعاليك، وإنْ لمْ أكنْ، بالضّرورة، شاعراً من أزمنتهم، كانتْ تسكُنني الأمانيّ الكبيراتُ والتّطلعاتُ؛ لكنْ يقصّ أجنحةَ الخيالِ الشّارد مقصُّ الشّارع، وعن مقصِّ الشّارعِ فاسألْ يجيبوك: حـادّ، مِثلَ الواقع!

أيامٌ متشابهة، خانقة، مثل حرارة المدينة، اللافحة على الدّوام. أستفيق في الصّباح وأسيرُ إلى الدّكان الضّيق، في الشّارع الخلفي، في المدينة اللاهثة، في الأزمنة المقصيّ مُتخرّجوها من أيِّ حظ في كلّ ذاك البذخِ الذي رسموا في أدمغتهم الحالمة عن مُقبل أيّامهم؛ لكنْ ما كانوا يدْرون وما كنتُ. قبّحَ الله زمناً تقبّحَ، فما صرْنا ننتمي إليه..

تعُوذ بالله من الشّيطان الرّجيم (والشّيطانُ شياطين) وتفتح الدّكان وأنتَ تسترجع دعاءَ جلبِ الرّزق، الذي لم تستطع حفظه، رغم كلّ مُحاوَلاتك، فكتبته في ورقة وألصقتَها أسفلَ الواجهة الزّجاجية من الدّاخل. تُعلق سبّورة الإعلانات وتُشعل الناسخة وأنتَ تتمنّى، قبلَ أن تنحنيّ على الدّعاء لتقرأه، ألا تفعلها بك في ذلك اليوم، تلك الآلة المعطوبة على الدّوام. تضغط زرّ الجهاز، المركون في زاوية المَحلّ، فيُسمَع في المكانِ صوتٌ يعلن التّرحيبَ بك في عالم الكتابة، في صيغة الحاضر.

اكتب، أيّها الممسوسُ، منذ أزل، بلوثة التخطيط على بياض الصّفحات. مئاتِ الآلافِ صارت الصّفحاتُ في صفحة واحدة، مفتوحة أمامكَ في غنجٍ فاتِن، فاكتب عقوداً والتزامات، قصصَك أو الخواطر. ما عادتْ بك حاجة إلى القلم والأوراق. اللوحةُ أمامك حُروفٌ ورموز وحركات وأدواتُ ترقيم.. مسحٌ وتشذيبٌ وتعديلٌ وتراجُع؛حذْف ونسخٌ وإلصاق وتحفيظ؛ اختيارُ خط، تكبيرُ حجمٍ والتصغيرُ؛ تضخيمٌ وترقيق وإدراجٌ واستعمالُ صور.. الكلّ معروضٌ أمامك، في صفحة الكلمة “Word”؛ ومع الصّفحة الباذخة موسيقى وأفلامٌ وألعاب، حسب الاشتهاءِ واختلاف المُيول.

تُثبّتُ اللوحة عند ناصيّة الرّصيف وتعود لتدفن يوماً إضافياً من نهاراتِ حياتك خلف واجهة الدّكان. تتّكئ على سطح الواجهة الخشبي وتراقب الشّارع في لحظاتِ الصّباح وقد بدأت الحركة تدبّ في الأنحاء. 

العربي، صهرُك، كما عادتِه، مُشمّراً على ساعِدَي الجدّ وكأنّه يتمنّى لو كان له ساعدان آخران أو سواعد لتلبيّة رغبات زبائنه وتلقـُّفِ دراهمهم مُقابلَ خدماته التي يُقدّم لهم وسلَعه التي يبيع. التلاميذ، في رواحهم إلى أقسامهم وزبائن المَحلات المُجاورة والسّوق قد بدؤوا يملؤون الأرجاء ضجيجاً ومُساوَمات. تَفرّجْ على حركة الشّارع أو على شريط أيامك، يعبُر في المخيّلة المكدودة، طافحاً بالرّجاء والأماني، مُسافراً إلى أزمنة الآتي، والواقعُ صِعابٌ وعقبات تشدّك إلى أرض الشّارع الخلفي، والأزمنة تاجرة..

انصرمْ، أيّها الصّباح، فالنّهار، واغرُبي، شمسَ اليومِ، لتطلعي، في الصّباح المُوالي وتقطعي مشوارَ الأمس نفسَه وتُؤرّخي تفاصيل السّيرة المنسية نفسَها، في دكان ضيّق، في شارع خلفيٍّ، في مدينة لاهثة، في أزمنة مَقصيّة، مَخصية.

هذا هو الواقع، أيّها الطيب المسكين. دعْ عنك تلك النظريّات الغبيّة وهاتِ نصيبَك من الآن، من الهُنا، في اللامكان، في اللازمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *