عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 70

فصول من الكوميديا.. الأدبية!

استأنفت المسابَقة فاعلياتها في اليوم الموالي. عند حدود الثامنة والنصف صباحاً، كان علينا الاستعداد لرُكوب الحافلة. في الجامعة، حيث نتوزّع على المدرّجات والأقسام -كلّ فوج حسب المحور الذي يشارك فيه- تواصلتْ فصول الكوميديا الأدبية المُتفرّدة، برعاية جامعة ناصر الأممية.

باستثناء بعض الكتابات (ما بين شِعر وقصّة) التي تَمكّنَ أصحابُها من أن يجعلوني والحضورَ ولجنةَ التحكيم نُمعن الإنصات إلى ما يُقرَأ، حملَتنا بقية المُساهَمات إلى عوالمَ مُفرطة في “عجائبية” لا قِبَل لها بإبداعات الرّائع غارسيا ماركيز؛ حعجائبية من نوع خاصّ جدا، كلماتٍوصيغاً وعبارات ومعانيَ. خليط عجيب غريب لا يربطه بما يسمّى الأدب إلا إصرار مُقترفيه على مُعاقَبة مَسامعنا وجَلْد صبرنا في تلك اللحظة من التّعذيب الجماعيّ الذي فرضته علينا سخريةُ أقدار ساقتنا إلى أغرب مُسابَقة أدبية يمكن شخصاً أن يشارك فيها!

كان أحد أدباء المستقبل يُشنّف مسامعنا بتوهّماته، التي اغتال فيها جميعَ قواعد النحو والصّرف وصلَبَ مُقوماتالكتابة الأدبية ومبادئها؛ قبل أن يظهر من بين الصّفوف الأمامية “شاعر الجماهيرية” ويشرع، بدون استئذان، في إلقاء قصيدة تمجيد جديدة في حق الواحد الأوحد هنا: القذافي..

أنقذنا شاعرُ البلاط من تلك القراءة المُملّة لأحد شعراء الواقع العربي المُتكلّس وألقى طوقَ النجاة إلى العديد ممّن كانوا يستمعون إلى طالب عذّبَنا بنصّه وعذّب اللغة العربية معنا!
كانت تلك المرّةَ الأولى التي يُحسن فيها ذلك “الشّاعر” الكهلُ اختيار َتوقيته. استحسن الجميع ظهوره المفاجئ لأنه خلّصهم من حصةِ تعذيبٍ رهيبة. سرَت الهمساتُ والوشوشات وانطلقت ضحكات جانبية خافتة، كالعادة، كلما شرّف ذلك الإنسانُ أحدَ مَجالسنا بواحد من تدخّلاته المدّاحة..

حين جاء دوري للصّعود فوق منصّة الإلقاء، إلى جانب أعضاء اللجنة، لم أشعر بأدنى ارتباك أو تردّد. القليلُ من التوتّر الذي كنت أشعر به في مثل هذه المواقف مسحتْه قراءاتُ كثيرين ممّن سبقوني، بسبب كمّية الأخطاء والأغلاط المُتلاحقة التي ارتكبوها في حق لغة الضّاد وهم يتلُون نصوصهم. تلَوْت قصّة الشّاعر وإكليل الموت.. أمرٌ واحد كنتُ متأكدا منه، وأنا أُسمِع قصتي لأعضاء لجنة التحكيم والحضور معاً: على الأقلّ، سأرتكب أقلّ قدْر مُمكن من الإساءات إلى اللغة العربية!

عندما تعالت تصفيقاتُ الطلبة والمستمعين من جنبات المدرّج، أحسستُ بعضلة العظَمة تنتفخ قليلاً في دواخلي. ورغم ثقتي التي زادتها التصفيقات قوةً، خفَق قلبي بشدّة وأنا أنتظر رأيَ اللجنة. أثنى الأستاذ الذي تَكفّل بالتقييم على قصّتي وأورد بشأنها ملحوظات مُشجّعة؛ امتدحها صياغةً وحبكة ودلالة. الملحوظة السّلبية الوحيدة التي سجّلها في حقي هي أنّني “كنت مُتسرّعاً بعضَ الشّيء” في قراءتي.. قبل أن يستدرك بأنّ “ذلك أمرٌ هامشي، ما دامت القصّة القصيرة تُكتَب، في الأصل، لكي تُقرَأ وليس لكي تُسمَع”.

وأمّا أحسنُ ما سمعتُ بعد تلاوة مُشارَكتي تلك فكان من أستاذ سودانيّ ضمن أعضاء اللجنة كان أقربَهم إلى مجلسي؛ انحنى عليّ وهمس في أذني، وهو يصافحني بحرارة:
-أستطيع، منذ اللحظة، أن أقول لك هنيئاً لك بالجائزة الأولى!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *