عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 69

البيعْ والشّـرا..

فتحت الصّفعة التي تلقيتُها على زربية الغذاء من النّادل وهو يشير إلى أنه لا يُريدنا أن نُجالس “المُرتزقة” عينَيّ على حقائقَ ومُعطيات زكّتْ في دواخلي الانطباعَ بأن ثمّةَ أمورا غيرَ عادية تجري هنا في جماهيرية القذافي تحت غطاء “مُسابَقة الطلاب العرب في الجامعات والمعاهد العليا”.

أمضيتُ مسافةَ العودة إلى الفندق مساءَ ذلك اليوم، بعد الرّحلة الاستطلاعية إلى لبدة الأثرية، وأنا أفكّر في بعض الوقائع، باحثاً عن رابط أو روابطَ مُحتملةٍ بينها، مُحاولاً الوصول إلى نتيجة منطقية لهذا الذي يجري ويدور. لم تدُمْ حيرتي طويلا..

اجتمعتُ، في الليلة ذاتِها برشيد، الطالب السّلاوي الذي رافق أفرادَ البعثة الطلابيةَ المغربية على أساس أنه “شاعر” جاء للتنافس على إحدى الجوائز الثلاث المُخصَّصة للمحور الأدبيّ. جاءني يطلب مُساعَدة بخصوص ما قال إنه “قصيدة” سيُلقيها على مسامعنا في اليوم الموالي. طلب مني رشيد، الذي كنتُ أظنّه، أنا المسكين الوحيد في المشهد كله كما وصفني النادل البيضاوي، مشروعَ شاعر في بدايات دِربته على ركوب بحار المعاني، أن أستمع إلى أبياتَ “قصيدته” وأقوّم له بعضَ ما قد أجده مُعوجّاً من قريضه، الذي لا أخفيكم سرّاً أنه كان أغربَ ما سمعتُ في حياتي، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أنّ المُفترَضَ فيه أنه يندرج ضمن مُسمّى “الشّعر”!

ما إن بدأ صديقي الشّاعر في تلاوة قصيدته العجيبة -الغريبة حتى غلبتْ عليّ موجةٌ من الضّحك لم أستطعْ معها إلا أن أنتزع أوراقه التي كان يقرأ منها من بين يديه. أردت التأكّد من أمر واحد: ألا تكونَ تلك واحدةً من دعاباته؛ فقد صرتُ أعرفه بما يكفي وأعرف مَقالبَه وميله إلى المزاح واختلاق المواقف المُضحكة. لم أكنْ أريد أن أجد نفسي في موقفٍ آخرَ أبدو فيه، من جديد، في وضع المُغفَّل الوحيد في المشهد كله. لكنّ ما سمعتُ من صديقي الشّاعر كان هو المكتوب، بالفعل، على الأوراق.

سألتُه، مُحاولاً الكفَّ عن الضّحك دون أن أفلح في ذلك:
-هل تنوي، فعلاً، المُشارَكة في المُسابَقة بهذه القصيدة؟ واللهِ لو كان المُتنبّي قد سمعها أو عرف أنّك ستقترفُها ما كان نظَم بيتاً واحداً في حياته!
-طبعاً، سأقرأ هذه القصيدة وإلا ما كنتُ جئتُك بها الليلة!
أكّد لي، بنبرة واثقة وغيرَ عابئ بما قلت. لمْ أعدْ أعرف “هل أنا في حلم أم في علم”، كما يقول إخوانُنا في مصرَ، ورشيد يؤكّد لي أنّ الكلمات التي بين يديه هي ما سنسمع منه وما سيسمع أعضاء لجنة التحكيم.

وبعدما حاصرتُه بالأسئلة والاستفسارات، أسرّ إلي بأنه لا علاقةَ له بالشّعر ولا بالكتابة ولا حتى بمُسابَقاتهما! قال إن شقيقاً له هو من كتب له “هادْشّي”، كما وصف ما في الأوراق؛ مُقرّاً بأنه كان، بكلّ بساطة، ينوي أن تُتاحَ له فرصة “الحْريكْ” عبر بوابة مالطا، التي اعتادت الطائرة التوقفَ في مطارها طيلة السّنوات الكثيرة التي شارك خلالها في هذه “المُسابَقة الطلابية”؛ مضيفاً أنّ هذه أول مرّة يجري استبدال الطائرة في مطار تونس -قرطاج بدل مطار مالطا. لم يُسعفْه حظه، في المرّات السّابقة، في إيجاد مَنفذ يُغادِر منه مطار الدّويلة الصّغيرة الواقعة بين قارة “إغريقيا”، التي يُريد الجميع النجاة منها، وبين أوربا، فردوس الشّعراء، عفواً، “الحْرّاكة”.

حاولتُ، ما أمكنني، تشذيبَ قصيدة صديقي العجيبة وتهذيبَها، وأنا أضحك منه ومنّي. تأكد لي، بعد حديثنا، أنّني فعلاً، كما قال النّادل في ظهيرة اليوم نفسه، المسكينُ والمُغفَّل الوحيد هنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *