عبد الرزاق بوتمزار

ح. 67

لبدة.. إطلالة ٌعلى الزّمن الغـَابر

 

“بنى الفينيقيون مدينة “لفقي” (اشتهرت باسم لبدة) في القرن السّابع قبل الميلاد؛ واتّخذوها مرفأ رئيسياً لنشاطهم التجاريّ في البحر المتوسط. وبمُرور الوقت، نما المرفأ التجاري ليُصْبح أحدَ أحواض المُتوسّط، الكبرى، إذ ضمّ، لاحقاً، منارة لبدة، التي أنشأها الإمبراطور الرّومي سبتيموس سفيروس حوالي 200 سنة قبل الميلاد”..

دخلنا المدينةَ الأثرية وقد سيطرتْ علينا هيبة المآثر التاريخية. يُحسّ المرء بنفسه ضئيلاً أمام هذه العظمة المعمارية التي خلّفها أناس عاشوا في أزمنة سابقة واستطاعوا، رغم ذلك، أن يتركوا، للتاريخ والجغرافيا معاً، معالمَ تنطق بعبقرية الإنسان وبقدرة المجتمعات الإنسانية على الخلق والإبداع بوسائلَ تقنيةٍ محدودة؛ بل “مُتخلفة” مُقارَنة بما وصلتْ إليه التّكنولوجيا في أزمنتنا المُتقرّحة، التي أضحت فيها النفوسُ المريضة مَيّالةً إلى الهدم والتّدمير أكثرَ من البناء والتشييد..

أذهلتني المساحة الكبيرة التي تقوم عليها بقايا المدينة التاريخية: أعمدةٌ حجرية مُتراصّة على امتداد البصر؛ أبواب وأقواس عملاقة وأساساتُ قصورٍ وبقايا بُيوت ومسرح دائريّ مدهش يشي بمرور الرّوم من المنطقة، ذاتَ تاريخ.

في لحظة، حاولتُ أن أتخيّل كيف كان الناس يعيشون هنا. كيف كانوا يقضون أيامهم وعلى ماذا يعيشون؟ كيف يفكرون؟ وماذا كان يشغلهم؟ وكيف كانت فنونهم وآدابهم؟ وأيّ مواضيع أو أفكار تُناقش في عهدهم؟.. قبل أن ينزل محمّد على كتفي بضربة قوية، وهو يدعوني إلى التقاط صورة معه.

أمضيْنا لحظات مرِحة، بعيدا عن ضوضاء الفندق وجلسات الاستماع إلى قراءات المُتنافسين على جوائز جامعة ناصر “الأممية”. بيد أن مُفاجَأة جميلة أخرى كانت تنتظرنا على “بساط” الأكل.

في الوقت الذي كنّا نستمتع بمُعايَنة ممرّات المدينة الأثرية وأعمدتها وفضاء المسرح الدّائري الذي بقي معظمه، بما في ذلك كراسي المتفرّجين، والباعث على رهبة كلّ مكان وزمان في حضرة “أب الفنون”.. كان المُشرفون على برنامج الرّحلة يُعدّون العُدّة لوجبةِ غذاء مُميَّزة، تَحدّثنا عنها، في ما بعدُ، طويلا.

عندما جرى تجميعنا لتناوُل الغذاء اكتشفنا خيمةً كبيرة قد نصَبها المُشْرفون على مقربة من المدينة الأثرية. قدّموا لنا، تحت ظلالها، وجبة “المْشوي” على الطريقة الليبية التقليدية.

كانت مُفاجأةً استحسنها أفراد جميع الوفود. وجدنا في تقديم الطعام بتلك الكيفية فرصة لكسر نمطية الطريقة الروتينية التي يُقدَّم لنا بها داخل الفندق. كانت خيمة واسعة نُصبت لتقينا حرّ سياط الشّمس، التي كانت لاسعة في ذلك اليوم البعيد من أيامنا فوق تراب الجماهيرية. جلسنا “إلى الأرض” فوق الزرابي الفُرِشتْ على امتداد الخيمة، المنصوبة على أعتاب التاريخ، العابق حولنا بحضارة الرّوم وتجارة الفينيقيين.

اشتمل الغداء على كميات لامُتناهية من قِطع اللحم المشوية في عين المكان، مُرفَقةً بالبهارات والتّوابل المحلية وبمشروبات غازية تحتكرها شركة تُنتج مشروباً يُشْبه “كوكاكولا” أو “بيبسي”، المعروفتيْن في المغرب، إنّما بمذاق مُختلف ومُستفزّ!..

وكما هو الحال دوما في خروج إلى الطبيعة، كانت الشهية مفتوحة لالتهام أكبر قدْر من الأطعمة. جلسْنا في مجموعات حول صُحون كبيرة، يطوف علينا بها نُدُل بلباس مُوحَّد، يُلبّون طلباتنا ويَجلبون كلّ ما نطلب، من مأكل أو مشرَب. أحد هؤلاء كان مغربيا؛ عندما بادرته بالسّؤال، بعد أن انتبهتُ إلى لكنته “من أيّ مدينة أنت؟” أجابني بأنه يتحدّر من الدّار البيضاء.

أبدى سعادة غامرة بلقائي وبلقاء المغاربة الذين كانوا يُرافقونني، وإنْ كان حديثي معه قد انتهى بوضعي في موقف مُحرج، إثر ملحوظة أبداها بخصوص طالب موريتانيّ كان يُقاسمنا جلسةَ الطعام، المُميَّزة تلك لولا أنْ كان بيننا… “بُوليزارْ”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *