عبد الرزاق بوتمُزّار

ح. 31

لحظةُ الحقيقة!

اليومُ الأول من الامتحان.. عاينتُ رقمي داخل المُدرَّج وجلستُ. غيرَ بعيد عنّي، جلس إلى الطاولة نفسِها طالبان؛ أحدُهما عن يميني والآخر عن يسار. المُدرَّج مُدجّج بالأساتذة، للمراقبة. وَزّعوا علينا أوراقَ الأسئلة وأوراقاً للتحرير، بألوان مختلفة، وأخرى للوسخ؛ وفي صمت جنائزيّ، بدأت اللحظات الأولى لمواجهة الحقيقة.

سؤالٌ، أسئلة. قلمٌ وورقة فارغة وبياضٌ يتحدّى. هنا، تعمل الذاكرة على إملاء ما خزّنتْ، على امتداد أيام وشهور، على الدّماغ، الذي يُصْدر الأمرَ للأصابع أنْ واجِهي الأسئلة المُستفزّة!

تندلع معركةٌ حامية بين الكلمات والجُمَل والتّراكيب حول الأجدَر منها بالبقاء على بياض الورقة؛ أمّا ما لم يصمدْ منها فيكون مصيرَه الحذفُ والتشطيب. يَعقب ذلك الإقصاءُ من الحضور في ورقة التّحرير النهائي.

كانت ثلاثُ ساعات، في العموم، المدة المخصّصة لكل اختبار على حِدة. اكتفى بعض الطلبة بالمُكوث للَحظات، قبل أن يُوقّعوا أوراقهم ويُقدّموها إلى هيأة الحراسة وينسحبوا في هدوء. هؤلاء المُنسحبون إمّا أنهم “لم يُقمّروا” على المادَّة “الصحّ”، لأنهم لم يُعولوا على نوعية الأسئلة المُقدَّمة؛ أو أنهم، ببساطة، حضروا فقط من أجل التوقيع ولا شيء غيرَه؛ ولكلٍّ سببٌ ومُبرّر.

لم تكن توقفني إلا صعوبة البدايات، كما عادتي، في مواجهة أيّ ورقة فارغة.. بعد اجتياز عَقبة البداية، كنتُ أسترسل في تدوين إجاباتي، حسب ما بقي في ذاكرتي. قد تكون معلومات استوعبتُها وأستطيع، اللحظةَ، أن أرَكّبها في صياغة خاصّة ووفق منهجية تحليلية أو نقدية واضحة، أو قد أكون فقط حفظتُها “عن ظهر قلب” لأعيدَها إلى صاحبها أحياناً (بالنقطة والفاصلة) وفاءً للعبارة المأثورة عن سورة يوسف “بضاعتُهم رُدّت إليهم”.

دفعَنا طولُ مدة الاختبار والحَرّ الشّديدُ إلى مُغادَرة أماكننا، إمّا لنشرب أو لنرُشّ رؤوسنا المحمومة بالمياه أو لتدخين سيجارة، علَّ دخانَها يأتي بالفرَج.. بعضُ الطلبة يغادرون مقاعدهم ويتوجّهون رأساً إلى المراحيض البعيدة. معظمُ هؤلاء المُمتحَنين لا تكون نواياهُم حسنة.. الحراسة اللصيقة التي تفرضها لجنة المراقبة تُحتّم تخصيص شخص يُرافق الطالبَ بمجرّد ما يُغادر طاولةَ الامتحان. وكان رجال “الأواكسْ” هم من يتكفلون بهذه المَهمّة في كثير من الأحيان.

ورغم شطارة “الأواكس” وحذقهم المُفترَضين، كان بعضُ الطلبة يُفلحون في التلاعب برقابة أحدهم لمطالعة بعض الحْروز*ْ الخاصّة، التي تكون مُخبّأة في مكان من المرحاض أو محشوةً، ببساطة، في إحدى ثنايا ملابس الطالب! في لحظةِ غفلةٍ من “الحارس” كان بعضُ “القافْزينْ” ينجحون في إلقاء نظرة سريعةٍ، لكنْ مُتفحّصة، على حروزهم وتلقّفِ خيط البداية لجواب السؤال الذي تركوه ينتظر عودتهم داخل المُدرّج أو القاعة، المحروسة والحارّة.

بعض الطلبة كانوا يُحدّدون بينهم -مُسبقا- مواعدَ في هذه المراحيض”للتداول والتشاور” حول الأسئلة وتبادُل معلومات سريعة؛ تقطع أحاديثَهم تنبيهاتُ “الأواكسي” بأنّ الكلام ممنوع إلى أن يدقّ جرسُ انتهاء الذي عنده يعزّ المرء أو… “يكرّر”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *