الرباط: le12.ma

واضح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لديه مشكلة مع الإسلام كدين، فهو يرى أن هذا الدين يعيش انتكاسة في أكثر من مكان في العالم، والحال أن الذي يعيش انتكاسة هم المسلمون وليس الإسلام، فالإسلام كدين ينتشر كل يوم في كل بلدان العالم، فيما المسلمون يعيشون في بلدانهم أهوال الحروب التي يشعلها حولهم الإمبرياليون الذين تعودوا استعمار الدول ونهب خيراتها تحت ذريعة نقل الحضارة والتمدن إليها.

وأوضح مثال على هذه الإمبريالية هو ما قاله ماكرون حول سياسيي لبنان الذين قرعهم وقال إنه يشعر بالخجل بسببهم مانحًا إياهم مهلة لكي يجهزوا أنفسهم لتطبيق ما طلبه منهم. فبأي صفة يتدخل ماكرون في بلد ذي سيادة ويمنح سياسييه مهلة ويقهرهم كما لو كانوا يشتغلون تحت إمرته.

ماكرون يريد وضع قوانين جديدة ظاهرها محاربة التطرف الديني والتمويل الخارجي للجمعيات الدينية والتحريض على محبة الجمهورية، فيما باطن هذه القوانين هو محاصرة الإسلام تحديدًا، لأن الكنسية المسيحية في فرنسا تابعة للفاتيكان واليهود الفرنسيون ولاؤهم لإسرائيل، وهؤلاء يحق لهم أن يتلقوا تمويلات خارجية وأن يكونوا تابعين للخارج فيما مسلمو فرنسا يمنع عليهم ذلك.

ماكرون يعد بإسلام الأنوار، والحال أنه لا يمكن أن تخترع إسلام الأنوار في بلد كفرنسا يعاني فيها المهاجرون والجالية خصوصًا المسلمة من العنصرية حيث إن أسماءهم وملامحهم كافية لتوقيفهم وتفتيشهم، ناهيك عن إقصائهم الممنهج من الوظائف والمسؤوليات التي تتناسب ومؤهلاتهم. لذلك فالمسلمون في فرنسا محتاجون للمساواة وليس لخطابات حول المساواة.

واضح أن ماكرون لم يكن يجرؤ على الحديث عن اختراق الإسلام الوهابي للتعليم الفرنسي لولا أن السعودية تخلت عن دعم هذا الإسلام الوهابي المتطرف. بمعنى أن البلد المصدر لهذه الإيديولوجيا تخلى عن تصديرها، لذلك فالدولة الفرنسية التي كانت تغمض عينيها وتستقبل هذه البضاعة مقابل صفقات تجارية أصبحت اليوم في حل من هذا القيد، ولذلك أصبح ماكرون يتحدث عن قطع التمويل الخارجي عن الجمعيات الدينية دون تحرج أو خوف من أن يغضب المملكة العربية السعودية. والواقع أنه منذ عقدين على الأقل وأصوات الحكماء في فرنسا تتحدث عن انحرافات العلمانية الفرنسية، بحيث يمكننا الحديث دون مبالغة عن علمانية معادية للدين، خصوصا الإسلام، بدل أن تكون، كما عرفها فلاسفة الأنوار، عقلنة للمجال العمومي، وفصلا للمجال الخاص والشخصي عن العام وكل ما له علاقة بالدولة.

إيمانويل ماكرون وجد نفسه في خضم هذه الأزمة، وبدل أن يضع أرضية تسمح بتصحيح معاداة الجمهورية الخامسة للعقائد، وخاصة الإسلام، ويبدأ في تأسيس ما يطالب به الفرنسيون، والمتمثل في جمهورية سادسة، فإنه آثر أن يركب موجة الشعبوية التي تجتاح العالم في السنوات الأخيرة، متوعدا بتوقيف استقدام الأئمة، وخاصة من تركيا والمغرب والجزائر وتونس كما جرت العادة قبل سنوات، بحجة أن هؤلاء الأئمة يتحدثون بالعربية والدولة الفرنسية لا تفهم شيئا فيما يقولون ويروجون من أفكار.

أطلق ماكرون مفهوما جديدا غير مسبوق هو “الانفصاليين الإسلاميين”. والحل بنظره هو قطع علاقة مسلمي فرنسا مع الأئمة الذين ترسلهم دولهم إليها لتأطير هؤلاء الفرنسيين المسلمين. وفي العقود الماضية، كانت فرنسا تستقدم سنويا حوالي 300 إمام، منهم 150 من تركيا، و120 من الجزائر، و30 من المغرب، ينضافون إلى مئات الأئمة الذين يشرفون في الأيام العادية، فضلا عن شهر رمضان، على تأطير ما يناهز 6 ملايين مسلم، بما مجموعه 1800 إمام تقريبا.

أما الآن، فإن كل من يريد الحديث في الدين، يتوجب عليه أن يتحدث بلغة واحدة هي اللغة الفرنسية، وينبغي أن يكون فرنسيا وليس أجنبيا. ليتضح فعلا أن أزمة الهوية في النموذج العلماني الفرنسي أصبحت أمرا واقعا.

فبالنسبة لماكرون الإسلام الذي يسيطر على فرنسا هو الإسلام السياسي المناقض لقيم الجمهورية، وينبغي وضع حد له. مذكرا في الوقت نفسه بأنه ليس ضد الإسلام كديانة، ولكنه ضد مسلمين يفضلون “الانفصال” عن أسلوب الحياة الذي تمثله الجمهورية.

أغلب تعليقات كبار المعلقين السياسيين طرحت علامات استفهام حول توقيت قرار ماكرون إعلان الحرب على الإسلام السياسي. ففي الوقت الذي يتم فيه تسجيل وجود ما يفوق 47 حيا في فرنسا، وفق إحصاء رسمي، خارج سيطرة السلطات الفرنسية، لكونها أحياء تقع تحت سيطرة جماعات متطرفة وعصابات اليمين المتطرف، فإن ماكرون فضل توظيف “الإسلاموفوبيا” لرفع شعبيته المنهارة بسبب طريقة تدبيره السيئة لجائحة كورونا.فيما مكونات المشهد السياسي الفرنسي منقسمة بحسب مصالحها حول الموضوع، فهي موزعة بين من ينظر إلى الإسلام والمسلمين على أنهم معادون لقيم الجمهورية، وبين من يرى أن الحديث عن معاداة الإسلام لهذه القيم هو محض عنصرية، معتمدين على تصريحات وخطابات رسمية لبرلمانيين من حزب ماكرون اعتبروا النساء المحجبات مشاركات معنويا في جريمة قتل أربعة جنود التي نسبت لداعش قبل أشهر. بل إن مدارس عمومية فرنسية كثيرة قررت منع الأمهات المحجبات من اصطحاب أبنائهن وحضور مختلف الأنشطة المدرسية، بما في ذلك حفلات نهاية السنة. ودفعت بهذا المقترح، الأغلبية الجمهورية داخل البرلمان، وثمّن هذه الخطوة نواب حزب التجمع الوطني اليميني. فيما أطلقت قنوات الإعلام الفرنسي سيلا من الخطابات المتطرفة، بضيوف مغرقين في المحافظة محسوبين على التيار اليميني في البلاد، كالكاتب المعروف بخطابه العنصري، إيريك زيمور.

هكذا تحولت العلمانية الفرنسية من تحييد مجال الدين وفصله عن السياسة إلى علمانية معادية للإسلام بشكل صريح ومعلن. بل وأصبح الدين ورقة سياسية. لذلك يتحدث بعض الحكماء الفرنسيين أمثال الفيلسوف اليساري مارسيل غوشيه عن كون العلمانية الفرنسية أضحت في حد ذاتها عقيدة متطرفة، لكي يتضح في النهاية أن موقف ماكرون هو انحياز واضح لليمين المتطرف بدل أن يكون رئيسا لكل الفرنسيين، مهما كانت دياناتهم.

ومن يتابع هذه الهجمة ضد الإسلام في فرنسا يعتقد أن الأمر جديد، والحال أن فرنسا لديها ماض عريق في اضطهاد الأجانب بسبب معتقداتهم.

صنعت ذلك مع اليهود طيلة ألف سنة وطردتهم أربع مرات، حتى أن لديها قديسا اسمه سان لوي كان متخصصا في اضطهاد اليهود.

فرنسا عاشت صراع الكاثوليك ضد البروتيستانت ومذابح وتهجير الناس بسبب معتقداتهم إضافة إلى ثلاثة قرون من الحرب الأهلية، ومع ذلك يبدو أن الفرنسيين لم يستخلصوا الدروس من تاريخهم.

فرنسا لا تخجل اليوم من معاقبة مواطنيها من أصول أمازيغية أو عربية أو مسلمة حسب عرقهم إذا ما أدينوا بالإرهاب، فقد فرضت قانونا يعطيها حق سحب الجنسية الفرنسية عن هؤلاء المواطنين وإعادتهم إلى بلدان أجدادهم الأصلية، رغم أنهم ولدوا وترعرعوا فوق التراب الفرنسي، عِوَض الحكم عليهم بالمؤبد وتركهم في السجون الفرنسية، وهذا يكشف مدى تغلغل العقلية الاستعمارية في الدولة العميقة الفرنسية.

إيريك زيمور الصهيوني الهوى طالب بكل حرية في القناة العمومية الخامسة بتخيير مسلمي فرنسا بين التخلي عن الإسلام أو مغادرة التراب الفرنسي.

فهؤلاء المسلمون كانوا صالحين عندما شيدوا فرنسا بأذرعهم وعرقهم واستعملتهم الجمهورية كدروع بشرية في حروبها الإمبريالية ضد الشعوب التي استعمرتها ونهبت خيراتها، أما اليوم فهم وأبناؤهم مجرد مشكل يجب التخلص منه، وليس بمنح الرئيس السابق فرانسوا هولاند الجنسية الفرنسية لثمانية وعشرين من الرماة السينغاليين الذين حاربوا في صفوف جيشها سينسى السينغاليون ما فعلته فرنسا بهم، كما أنه ليس بإعادة ماكرون لبضعة جماجم لشهداء جزائريين سينسى هؤلاء قرنا وثلاثين سنة من الاضطهاد.

التاريخ ليس قائمة طعام نختار منها ما يثير شهيتنا ونستثني ما يثير فينا الغثيان. التاريخ شاهد لا يعطي رأيه بل يحكي بتجرد ما وقع.

فرانسوا فيون، المحكوم قضائيا بأكثر من فضيحة والمرشح السابق للرئاسة، سبق له أن قال إن أطفال فرنسا عليهم ألا يخجلوا من تاريخ بلدهم، ففرنسا لا يجب أن تخجل من كونها أرادت اقتسام ثقافتها مع الشعوب الإفريقية.

والواقع أن فيون كان عليه أن يقول إن فرنسا يجب أن تعترف بماضيها الإمبريالي والاستعماري، فهي لم تذهب نحو الشعوب من أجل نشر ثقافتها بل من أجل استعبادها وذبح أبنائها واستنزاف خيراتها وفرض لغتها وثقافتها بقوة الحديد والنار .

وحتى عندما غادرت فرنسا مستعمراتها فقد تركت فيها مقيما عاما قويا اسمه “اللغة الفرنسية” تنوب عن “الوجود الفرنسي” في تأبيد الإستيلاب الثقافي الذي يعتبر أشد أنواع الاستعمار فتكا.

فرنسا اليوم أنشأت مؤسسة اسمها “إسلام فرنسا” ووضعت على رأسها مسيحي هو جون بيير شوفينمان وزير الداخلية الأسبق، وهذه المؤسسة في الحقيقة هي بمثابة الكليرجي، أو الإكليروس، ولكي “يبزروا” عليها فقد عينوا فيها الطاهر بنجلون كعضو بمرسوم رئاسي، وكتبت لوفيغارو اليمينية مبتهجة بأن الطاهر لم يعد يصلي صلواته الخمس منذ مدة، وكأن هذا في حد ذاته إنجاز عظيم، مع أنه في الإسلام ليست هناك وساطات بين المسلم وربه، إذ لا رهبانية في الإسلام.

وقبل ذلك تحدثت نادين مورانو مرشحة اليمين السابقة للرئاسيات عن “غزو إسلامي” لفرنسا، محذرة مثقفي فرنسا من حرب أهلية قادمة بين المسلمين والفرنسيين.

هل هي مصادفة، إذن، أن تتزامن كل هذه النكبات على مسلمي أوربا في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها القارة العجوز، وفرنسا على وجه الخصوص؟

ليس هناك مكان للصدفة، كل شيء مخطط له بإحكام شديد، فالقرن الواحد والعشرون، كما تنبأ له بذلك أندريه مالرو، سيكون دينيا أو لا يكون.

لكن هذه الحرب، الخفية تارة والمعلنة تارة أخرى، ضد الوجود الإسلامي في أوربا والغرب عموما، وفرنسا بشكل خاص، تأخذ أشكالا «ديمقراطية» و«قانونية» حتى لا يظهر العالم الحر والمتقدم عاريا على حقيقته، فتتحطم الصورة المثالية التي يريد تقديمها عن نفسه كمجتمع يعطي الدروس حول الأخلاق والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الفردية والجماعية لدول العالم الثالث وبلدان العالم «المتوحش».

لذلك، فالعالم «الحر» يتخذ قراراته من أجل التضييق على المسلمين بطريقة جد ديمقراطية، وذلك عبر الاستفتاء والتصويت وقوانين الهجرة التي يصوت عليها ممثلو الشعب في البرلمان ومجالس الشيوخ.

الغرب وحكماؤه يعرفون أنه بحلول عام 2050 سيشكل المسلمون نسبة 20 % من سكان أوربا بعدما كانوا لا يزيدون عن 5 %، أي أن الأسماء التي ستكون أكثر تداولا في أوربا بعد أربعين سنة من الآن هي محمد وعائشة وآدم وريان وأيوب ومهدي وأمين وحمزة وفاطمة، وهذا وحده يشكل بالنسبة إلى الفاتيكان، المحرك الحقيقي لسياسات قادة الدول المسيحية، كابوسا مخيفا.

والرسالة التي تريد هذه الحكومات الأوربية إيصالها إلى مسلمي أوروبا، وخاصة فرنسا، واضحة بما لا يدع مجالا للشك، وهي أن المكان لم يعد يتسع لهم، وأن عليهم أن يختاروا، إما أن يندمجوا كليا في المجتمعات الأوربية ذات الثقافة المسيحية أو أن يرحلوا إلى بلدانهم حيث يستطيعون ذبح خرفانهم ورفع آذانهم وصيام رمضانهم وارتداء الثياب التي تحلو لهم.

هذا هو عمق دعوة المفكرين الفرنسيين حول قضية الهوية الوطنية وخطر “الانفصال الإسلامي” الذي يبشر به ماكرون، فإما أن يقبل المسلم في فرنسا بالانسلاخ والتجرد من جذوره الإسلامية العربية أو الإفريقية أو الأمازيغية لكي ينتمي بالكامل إلى العرق الفرنسي والثقافة الفرنسية والهوية الفرنسية مسيحية الأصول، وإما أن يعود إلى حيث توجد جذوره التي يتمسك بها.

إن وضع أوربا، كقارة تجمع دولا تتفق جميعها على احترام المبادئ الديمقراطية، لا يسمح لها بأن تقوم بإحياء محاكم تفتيش جديدة على الطريقة الكاثوليكية لطرد العرب والمسلمين من أراضيها كما وقع في إسبانيا، ولذلك تلجأ إلى استعمال القوانين للضغط وإحراج ومضايقة وإهانة هؤلاء المهاجرين، مثلما فعلت الشرطة الفرنسية قبل سنتين مع فرنسي من أصول إفريقية عندما قامت بإدخال عصا في دبره، حتى يفهم المهاجرون أن الأمن والخلاص يكمن في عودتهم إلى بلدانهم.

إنها، في نهاية المطاف، حلقة جديدة ومعدلة ومنقحة من مسلسل «محاكم التفتيش» التي اعتاد الغرب المسيحي القيام بها كلما أحس بزحف الإسلام والمسلمين على أراضيه.

 رشيد نيني/كاتب صحفي     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *