عبد الفتاح إيشار

“الصورة أصدق إنباءً من الكتب”..

على طريقة المثقفين العضويين، من ينصتون إلى نبض الشارع ومن يلتحمون بهموم المجتمع ومن يتحسسون مشاكله والمعضلات التي يواجه، يتتبع الصديق المبدع عبد الغني الدهدوه واقع المنظومة التعليمية، راصدا الاختلالات التي تشوبها ومبلوِرا أهم مشاكلها ضمن صورة كاريكاتيرية تصوغ المشكلات وتلخصها على شكل أيقونات ورموز وأشكال وخطوط ضمن قالب تصويري بديع ينمّ عن إلمام بالمشكلات التي تتخبط فيها المنظومة، مُنبّها إلى ضرورة معالجتها؛ فأين تكمن هذه المشكلات؟ وما مظاهرها التي يُجليها الخطاب الكاريكاتيري هنا؟ وإلى أي حد تَمكّن التصوير الساخر من صياغة مجمل مشكلات القطاع التعليمي ومواكبة مستجداته؟

إن جردا سريعا لمجمل مكونات الصورة الكاريكاتيرية يمكّننا من تصنيفها إلى ما هو “أيقوني” و”رمزي” و”لغوي” وآخر عبارة عن “مؤشرات” ذات دلالة إيحائية. فأما الخطاب الأيقوني فتكوّنه العناصر الآتية، التي تتوزع بصريا بحسب أهميتها داخل النسق ككل، بحيث تحتلّ أيقونة الرجل المهندَم ببدلة ذات لون أسود في الجانب الأيمن من المستوى الأول للصورة، فيبدو وجهه مطموس الملامح التي يغيب عنها الفم والعينان ويتقدّمها أنفه الطويل البارز، الذي يكاد يلامس رأس أيقونة امرأة ترتدي ملابس متناغمة الألوان الدافئة وتحمل بيد رسالة تعيين وبأخرى حقيبة وتتجه بوجهها نحو الأفق، الذي تحتله “أطلال” بناء ينبسط داخل مساحة جرداء، وهو عبارة عن بقايا حجرة مهترئة الحيطان والجدران، سقفها من قصدير، تتخلله شقوق وفجوات متآكلة الجوانب وبدون نوافذ ولا باب، نسجت العنكبوت على جنباته عشها.

في حين أن الخطاب اللغوي تمثله اليافطة المعلقة على مدخل الحجرة، التي تحمل اسم “مدرسة” والورقة التي تحمل الفتاة في يدها مكتوب فيها “تعيين”.

أما الخطاب الرمزي فيتمثل في أيقونات الخفافيش المحلقة حول الحجرة الخرِبة والخارجة من داخلها، إضافة إلى علامة المنع، التي يشير إليها الرجل ذو البدلة السوداء، إذ تتأطر داخل علامة المنع صورة للآلة الفوتوغرافية، ويبدو لون السماء الرمادي يلتحم مع لون الأرضية الجرداء، في امتداد لانهائي عبارة عن مؤشّر بصري ينضاف إلى ضربات الفرشاة المحيطة بعلامة المنع وحول يد الرجل وأمام فمه المبهم.

بعد عملية تفكيك عناصر اللوحة، يمكننا إعادة تجميع دلالاتها الجزئية لبناء معنى كُلي ينسجم مع ما يرمي إليه الكاريكاتيريست، منفتحين على نظرية اللون والإرث “البورسي” ومستعينين باجتهادات “مجموعة مو” وميشيل فلوك.

إن الخطابات الأربعة تنصهر مجتمعة لبناء الدلالة الكلية، فاحتلال أيقونة الرجل المستوى الأولَ من الصورة مشرِعًا يديه تدلّ على مركزيته وأهميته وسلطته، التي تؤشر عليها حركة يديه “دلالة البطش”، التي تحضر في غياب الحوار-اللغة، من خلال غياب فقاعات الكلام وعدم امتلاك الرجل فما ولسانا. لكنه يمتلك سلطة التهديد (اليدين) هذه السلطة لا تعلو على سلطة المنع، بحيث تبدو علامة المنع أعلى منزلةً من الرجل. لكن رغم هيمنة هذه الشخصية، فإن اللون الأسود يضفي عليها برودا وفتورا يزكّيان هاتين الخاصيتين: طمس الملامح (غياب العينين والفم) دلالة على غياب الذات الفاعلة، فقط هي ذات آمرة، زاجرة، لا تملك سلطة الخطاب- الفعل = غياب الفم ولا تملك سلطة رصد الواقع = بدون عينين.

وعليه، فإن هذا المسؤول ليس له من دور سوى ترجمة ونقل خطاب أعلى منه سلطةً، مضمونه وجوب عدم أخذ صور فوتوغرافية أو استعمال آلة التصوير. ويصبح الأنف الطويل دلالة على الكذب البَيّن، وهو كذب يتجه نحو السيدة -الأستاذة لكي يضفي على ذاته شرعية اتخاذ القرار.

إن خطاب المنع هنا موجه إلى السيدة باعتبارها أستاذة تحمل قرار تعيين حديث العهد ومحفظة وتتجه بوجهها صوب “أطلال” الحجرة المهدمة، مُولية المتلقي ظهرها. إن تموقع أيقونة الأستاذة المتجهة بوجهها صوب الأفق، حيث تصبح مواجهة للحجرة المهترئة، يُضمر معنيين متلازمين:

1ـ معنى الإدانة والاحتجاج على وضع الحجرات التعليمية (المدارس) 

2- الآفاق التي تنتظر الخريجين الجدد، وهي آفاق تمثلها بقايا حجرة درس مهترئة ومتهالكة، عبارة عن أطلال وبقايا حجرة لا يتعرف المتلقي ماهيتها إلا من خلال قراءته الخطابَ اللغوي- الكاليغرافي الموجود على يافطة الباب “مدرسة”.

إن أيقونة “المدرسة” متهالكة البنيان ومنخورة الجدران تهيمن بصريا على عموم اللوحة، فتتموضع في فراغ تلتحم فيه الأرضية الجرداء مع الأفق المبهم، لنصبح إزاء أفق تعليميّ متهالك وآيل للسقوط؛ فعشّ العنكبوت يحيل دلاليا على الهجر واندثار الحياة داخل الحجرة، التي يغيب داخلها النور ولن تفرّخ إلا الخفافيش التي ستحلق في الآفاق. وعليه فعوض أن تتخرج من المدرسة أفواج من المتنورين سيغدو تعليمنا المهترئ وكرًا لتفريخ كائنات تهوى الظلام.

بناءً على ما سبق، فإن المبدع عبد الغني الدهدوه استطاع، وبرؤية دقيقة تلخيص الوضع الحالي للمنظومة التعليمية، مستشرفا الأفق القريب ومُنبّها إلى المآلات التي تتهدد القطاع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *