عبد الرزاق بوتمزار

ح. 116

تلك الأيّامْ..

كان قد مضى على ابتعادي عن الكتابة ما يربو على العشر سنوات.. صحيحٌ أنّني كنتُ، في فترات مُتفرّقة من تلك الفترة، أراسل بعضَ الصّحف والمجلات هنا وهناك؛ لكنْ كانت التّجارب مُخيّبةً والأجواءُ موبوءة على العموم. من ثَمَّ، فضّلتُ امتهانَ الكتابة للعموم على الاستمرار في مجال يأكل فيه الواحدُ عرقك بلا استحياء ويبيتُ مرتاحاً!

يحَضُرني وجه المُدير جحا، بجشعه الأشعبيّ الغريب وتحضرُني وجوه كثيرة يوحّدُها الوباءُ ذاته: الطمع.. ذاتَ يوم، سافرتُ من مراكش حتّى عاصمة الاقتصاد للقاء سعادة مُدير غير مُحترَم. حين وصلتُ إليه أخيراً، تَحدّثَ، وهو يُغيّر مَلامحَ وجهه (كي يبدوَ صادقا) عن ظروف النّشر ومُستوى مبيعاتِ الأسبوعية المُتدنّي وركود السّوق.. هي المُقدّمة نفسُها لخاتمة مكرورة: أعطني كتابَك (مُراسَلاتك في هذه الحالة) فابورْ!..

بالطريقة نفسها التي كان جْحا المُدير يَنصب بها على جُهود مُؤلّفين ومُعاناتهم وهُم يضعون عصارة أمخاخهم في بياض الأوراق، يَنصب آخرون على صحافيين ومُراسلين ومُتعاونين. (ما تَغيّرَ شيء بين الأمس واليوم).. كنت أقول لي بَعد كلّ تجربة فاشلة.

بعد أن عدتُ، في مساء ذلك اليوم، من عاصمة الاقتصاد وحكيتُ لرفيقة الدّرب والمحنة الطويلين تفاصيلَ الرّحلة، أمضينا لحظات مجُنونة من ضحك كالبُكاء استرسَل إلى ما لانهاية. تواصلتْ ضحكاتُنا في ذلك العُشّ، البعيد الآن، طويلا. كنّا كلما توقف أحدُنا عن الضّحك وقالتْ عيناه كفى، اللهْ يجعلو خيرْ، كل هذا الضّحك، انفجر الآخر. كان موقفاً لا يُنسى ولن.. حين لقيتُ المُدير غير المُحترَم، أخيرا، بعد أشهر من تعاوُني مع أسبوعيته “اللّبيبة”، مدّ إليَ يده، بعد “مُحاضَرته” عن الأزمة وهلمّ شكاوى، بورقة من فئة 200 درهم. أسافرُ من جنوب البلاد إلى شَمالها من أجل مائتي درهم! مُضحكةٌ/ مُبكية هي بعضُ المَواقف من صنّاع الثقافة والإعلام في هذي الرّبوع.

وضحكْنا، تلك الليلة، حتى ظهرَ ضرسَا العقل في فمَينا على غرائب حرفة يأكلَ أبناءَها دخلاءُ مُتاجرون دُون ذرّة حياء.

صارتْ بعيدةً تلكَ الأيام. طوتْ صفحاتِها قوانينُ لا مرئية لمهنةِ التّعب، عن حقائقَ وتجاربَ..

-C’est l’heure de se lever.. Il est Huit Heures et trente minu…

هكذا تبدأ المتاعب! أضغط على زرّ أحمرَ في هاتفي فيختنق صوتها؛ هذه الأنثى الآلية اللعينة. تتأجّل بضغطتي تتمّة جُملتها إلى اليوم المُوالي. أصحُو. قطرات من ماء الصنبور البارد تقضي على ما تبقّى من خدَر الأحلام. يبدأ الواقع الآن.

تدبّ الحركة في الفندق القديم. تشرَع الأبوابُ في إصدار أزيزها الصباحي. وجوهٌ بلا ملامح تُغادر غرفها، التي تنبعث منها روائحُ غيرُ مُحبَّبة في الغالب. أبتعد عن الصنبور المُشترَك وقد اقترب أحدُهم. أعود إلى غرفتي. أرتدي ملابسي وأقصد البقال في حانوت أسفل البناية. “كالعادة”، أقول له، وأنا أتحقّق من أن بين يديَ ثمن ما سيجمع لي كي أُسكِت به جوع الصّباح. في الشّرفة المُشرَعة على السّاحة، أزدرد حبّات الجُبن وقطعة الخبز وبعض الحليب المُلوَّن. أُقفل باب الغرفة بإحكام؛ وإنْ لم أترك فيها غيرَ حقيبة بملابسَ مُتّسخ أغلبُها وحقيبة ملأى بأوراق، غير مالية طبعا.

في مكتب الاستقبال الضّيق يكون شِريفْ قد استفاق من إغفاءة مُتقطعة. لمْ أفهم يوما -لشدّة ضيق بابه- كيف يلجان ذلك المكتبَ، هو وأبوه! أُناوله السّاروتْ وأنا أجدّد طلبي: احتفظ لي بالغرفة ذاتها، من فضلك.

التاسعة. يكون بعض الزّملاء قد حضروا. الآخرون يكونون في الأثناء أبطالا إشكالييين في فصل آخرَ من التّراجيديا اليومية في المدينةُ الغُول: رحلة البحث عن “التّرانسبورْ”.. يضع علال كأسَ القهوة وقطعة الخبز المدهونة بزبدة، جُبن أو مربّى، أمامي فوق المكتب وينسحب. أشغّلُ الجهازَ. أدلف إلى دورة المياه. قطراتٌ إضافية تَزيدُ الحواسّ انتعاشا وتُساعد في إعادة ترتيب الأفكار.

أخرِجُ بعضَ أوراق “A3” من محفظتي وألقي عليها نظرة، وأنا أرشف كأس القهوة. قطعة الخبز ستنتظر قليلا، ريثما يقرص الجوع. آخذ الأوراق إلى قسم قريب وأضعها فوق مكتب التقني. كانوا ستة وسابعُهم رئيسهم. في المكان، أيضا، ثلاث راقنات. تربط المُراجعين بهؤلاء علاقة مُباشِرة؛ عندما ينتهي أحدُنا من تدقيق مقال يأخذه إلى الرّاقنة كي تُدخلَ التدقيقات في ذاكرة الجهاز؛ يتكفل التقني بتركيبه وتوضيبه وإرفاقه بالصّور المطلوبة، ثم يطبعه للمدقق. وعلى الأخير أن يُعيد القراءة ويُواصل مُطارَدة أخطاء وشواردَ مُنحشرة قد يضبطها كلَّها وقد يُراوغه بعضُها.

في ما بعدُ، أحضَروا حواسيبَ وركّبوها في مكاتبنا. فضّلتُ دوما التدقيق على الآلة مُباشَرة.

اكتشفتُ الحاسوب في أواخر تسعينيات بعيدة. كان أهمّ ما في تلك الإجازة الإضافية التي ورّطتُني فيها أنّ في الشّعبة حواسيبَ. كان رئيس الشّعبة يتلذذ بتعذيبنا بتنظيراتِه المُطنبة. يُحدّثنا عن كيفية إشعال الآلة وينفخ صدرَ جسدٍ قصير وهو يُرينا كيف نفتح “ملفاً” ونشتغلَ على نقل مخطوط إلى ذاكرة الحاسوب. أخيرا، يتراجع إلى مكتبه. كنتُ أخفي لهفتي إلى آلة ذكية تنقل خربشاتي إلى بوابة عالم جديد. في محفظتي أو في أحد جيوبي، كانتْ هناك دائما، أوراقٌ قديمة تحوي قصصا وحكايا وخواطر. كانت الفرنسية لغةَ التّدريس في الشعبة؛ لكنْ كثيرا ما راوغتُ ضوابط الرئيس الباريسية لأسُلّ أوراقي المكتوبة بلغة الضّاد.. أضع خربشاتي التي خططتُ، ذاتَ خُلوات مُتباعدات، قرب أخرى بلغة التدريس، وأشرع في النقر مع النّاقرين؛ لكنْ كلٌّ ينقر لِليلاه…

حين أرمقه وقد غادر مقعده كنتُ أُدْني أوراق الحصّة وأعود -في مكتبِ الجهاز- إلى ملفّ الفرنسية. أغلقُ ملفي الخاصّ وأنقر كلمات إضافية في الملفّ الذي ترتضيه الشّعبة ورئيس الشّعبة.

بتلك الطريقة، تعلمتُ النقـر باللغتين، بالتوازي. كانتْ لدي أوراق كثيرة تنتظر التّصفيف أو الرّقن خلال تلك السنتين. ثمّ “طبّقتُ”، بعد ذلك، ما تعلمتُ في دار جحا، ذاتَ إجازة “مُطبَّقة”.

مرّت الآن أزيد من عشر سنوات على تركي ساحة صناعة الثقافة، فكيف حين أعود إلى التّصحيح أعود إلى الورق والأزمنة إلكترون؟!

كنتُ، في أول عهدي بالجريدة، أتصوّر أن طبيعة الأمور لنْ تسير هكذا؛ لكنهم وضعوا أمامي، في يومي الأول في جريدة المغاربة الأولى، قلما ومقالا مطبوعاً في ورقة!

التّاسعة والنّصف. يحضُرون تباعا. يبدأ المكان في الامتلاء وتُسمع أولى النّقرات. بعد الاجتماع اليومي، يسارع الصّحافيون إلى تحرير مقالاتهم. منهم تنطلق السّلسلة. يُفرّغ كلّ واحد منهم ما في جعبته، ثمّ يُسجّله في ملفّ مُشترَك ضمن شبكة داخليّة. يَطبع مُنجزَه ويُعْلم رئيس التحرير. ينتهي المقال إلى يدَيْ مسخوط منا. كنا أربعة وخامسُنا خبير. نقتسمُ الغلة اليوميّة وفق تحديد قد لا يُعجب الجميع بالضّرورة؛ لكنّ الأهمّ يبقى هو “البوكلاج”، أن تصل الـ”PDF” الصفحة الأولى إلى المطبعة في الوقت المُحدَّد. ينتهي أهمّ جزء من اليوميّ المُتعب. نتفرّق جماعات وفرادى بحثا عمّا يُسكت جوع الأمعاء.

لمْ تلبثْ عيناه أن رصدتاني مرّات وأنا جالس إلى جهاز أحدهم بعد أن يُغادروا جميعا في المساء. لمْ يكنْ من النوع الذي يحتاج، بالضّرورة، كلاما كي يفهم الرّسائل. ما لبثوا أنْ أحضروا لنا، نحن مَعشرَ المُراجعين، حواسيبَ خاصّة بنا. ستُقصى الرّاقنة من العملية تبعاً لذلك المُستجدّ في زاوية المساخيط. لم تعد وسيطا بيننا وبين التقنيّين. لا بُدّ لمهنة المتاعب أن تتطور، على كل حال. ما همّني كل ذلك بقدْر ما همّني أنْ صار لي جهازي الخاصّ، أبُثّه مكتوبي أنا، كلما لاحتْ فجوة بين مكاتيب الآخرين. لن أكون مُضطرا بعد اليوم إلى أن أنتظر حتى تخلو القاعة من الصّحافيين كي أسرق جلسة أمام جهاز أحدهم لأنقر كلماتي.. صارتْ بعيدة، الآن، تلكَ الأيّامْ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *