عبد الرزاق بوتمزار

ح. 102

الخِرّيج.. مُحتجّ أو “ظريّفْ مسكينْ”

يحتجّ الخرّيجون بحثاً عن ضمان خدْمة مْع الدّولة تُغنيهم عن عناء الكدّ والجِدّ والقيام في الصّباحات الباكرة من أجل ملء جيب مُدير كسول أو استغلاليّ أو منحوس، في أحسن الأحوال. يحتجّون لأنهم يعرفون أنْ في كلّ عملٍ يحصلون عليه سيكونون غيرَ مُرحَّبٍ بهم على الإطلاق: لا ضماناتٍ ولا ترسيماً ولا عَقداً واضحا ولا راتبا كريما ولا تعويضاتِ عن ساعاتٍ إضافية وأعياد ولا قانوناً ولا… لا شيءَ يستحقّ -إلا عندَ من رحم ربّي- أن يُعاشَ في قطاع خاصّ، غارقٍ، كما العامّ، في مُستنقعاتٍ من أزمات.

ينتظمون في مجموعات وتنسيقيات ويصدحون بالشّعارات من أجل وظيفْ مع الدّولة ولا شيءَ يهمّ عدا ذلك. انْسَ كلَّ سنوات الدّراسة، بما فيها من نضال وعراكٍ مع الذات والعالم من أجل تحصيل الشّهادة العليا؛ سهَرَ الليالي الطويلات سعياً وراء تعلـُّمٍ انسَ؛ قد تجعلك الأزمنة الرّديئة تكفر بكلّ لحظات حياتك التي أمضيتَ في درْبه. دع كلّ هذا في مكانٍ ما من الذاكرة، الفردية والجمعية، وتأبّط شهادتك (شهاداتك) وتسلحْ بحُنجرتك واهبط إلى شارع محمد الخامس، دون أن تنسى أن تضع فوق رأسك خوذة من رْضى الوالدينْ؛ قد تحميكَ من ضربة أحد رجال القوة العُمومية لو سخَنَ الطرحُ، لا قدّرَ الله!

فضّلتُ دوما الحلّ الثاني: أن أعمل، ولو في “ضيعات” أشخاص لا يعرفون قيمة العمل. هل هو قدَري وقدَر الجيل السّبعينيّ المغبون أم هو مصيرٌ فرديّ مُتربّص؟ لا أستطيع أن أتصوّر نفسي مُطارَداً من “بُوزرواطة” في أحد أركان الشّارع. كيف أعرّض هذا الجسد لمَخاطرَ إضافية من قبيل ضربةٍ مِن عصا غليظة لا تُميّز؟ ومن أجل ماذا؟ أن أصيرَ موظفَ دولة، أعيد إنتاج الفراغ ضمن السّلسلة مُحكَمة الإغلاق نفسِها!؟

قلْ ما شئت؛ لكنّي لن أسمع في هذه النقطة بالذات. اسخرْ من نوعية تخصّصي الجامعيّ، من قبيل الأدب العربي أو علوم وتقنيات الكتاب، وامسحْ بأحلامي الحضيض؛ لكنك لن تُقنعني بالنّزول إلى الشّارع للاحتجاج؛ أمّا أن أضطرّ إلى مبيتٍ في برد الليل أو قيظه في الخلاء أمام أنظار العابرين والفضوليين والمُخبرين والصّحافيين وهلمّ سُياحاً، فذاك حالٌ لا يمكن أن أتخيّله حتى.

يكفي رأسي المسكينةَ ما قد مرّ عليها من قيظ الشّموس وبرد الليالي الصّقيعية ذاتَ خلواتٍ على أعتابِ الحُلمِ ذاتِه. يكفي جيبَ العائلة ما صُرِف من دراهمَ على تعلّم لا يقود، بالضّرورة، إلى إدراكِ الأماني. هلْ أواصلُ مدّ اليد، بعد كلّ هذه السّنين، كي أسافرَ وأصرف على الأكل والشّرب قرب القبّة، في انتظار “وظيفْ” قد يأتي وقد تنوبُ عنه الزّرواطة؟!

بين فئة تُراوغ العصا قبالة البرلمان في انتظار الآتي، وأخرى تتحمّل فوضى قطاع خاصّ دون كبيرِ أملٍ قادم؛ ستُكتَب ملحمة جيلٍ مُتعلمٍ، مُعطـَّل العطاء جاء في زمن غير الزّمن ومكانٍ غير! كان محمد لْخرص، الذي التقيته صدفة في ذلك المساء بعد عشر سنوات، نَموذجَ الفئة الأولى. بين الفئتين، الناجُون ممّن شملهم رضا الدّولة وقُبِلوا في إحدى توظيفاتها القليلة أو أولئك المحظوظون، الذين لم يَعرف أحدٌ كيف شغَلوا وظائفَ ومناصبَ ما أتى في تفصيل استحقاقهم لها من عدمه سُلطان!

بعد تجربة الاندماج الفاشلة في مُحيط العمل في دار النشر إياها، ساقتني أقدارُي إلى شوطٍ آخرَ من صراع المُجازين من أجل البقاء على خريطة القادرين على أن يَصلُحوا لشيء في أرض لا تعترف يغير الصّالحين، بغير الأقوياء.

في عزّ أزمة بطالة ما بعد الدّار، خطرَ لي أن أجرّب حظي في التّجارة.. كان لدى والد أحد أقاربي دكانٌ معروض للكراء. فاتحته في الأمر، فشجّعني على خوض الرّهان؛ لكنْ لم تكنْ لدي أموالٌ أنفقها على تجارة.. لا بأسَ، قال قريبي، وتدبّرَ لي مبلغَ الرّهن السّنوي. تكلفتُ واستلفتُ وسدّد القريبُ ما تبقى، الكثير في الحقيقة.

استدنتُ، رفقة مجموعة، مبلغاً صغيراً من مُؤسَّسة للقروض وتدبّرتُ أمر طابعة عتيقة. أصلحتُ واجهة المحلّ وثبّتُ في الجُدران رُفوفاً. اشتريتُ حاسوباً قديما ودفاترَ ومُقرّراتٍ دراسية وأقلاماً وبعض المَحافظ. علّقتُ سبورة في باب المَحلّ وصَوّرت نسخاً لمُبارَيات توظيف منشورة في الجرائد الوطنية؛ وقلتُ: يا فتاحْ، يا رزّاقْ، كأيّ تاجرٍ مُحنَّك، وما أنا من المُحنّكين.

وفي اليوم التالي، قصدتُ بناية البلدية. ولجت مكتب المسؤول وطلبتُ رخصة كاتب عموميّ.. خط لي رشيد، صديقي الخطاط، لوحة حديدية تُشير إلى بعض الخدمات التي أقدّمها في محلي، فجلست أمارس “الكتابة”؛ إن لمْ يكنْ قصصاً وخواطرَ، فعُقودا وتنازلات.. المُهمّ بالنسبة إلي كان أنْ أظلّ قريباً، بأيّ طريقة، من الكتابة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *