بقلم : يونس التايب

 

عندما بادر المغـرب إلى نفـي أي رغبـة لديه في الترشـح لتنظيـم كـأس إفـريقيا للأمم لكـرة القـدم لصيـف 2019، عقـب إعـلان الكونفدرالية الإفريقية إلغاء قرارها السابق بتكليف الكاميرون بتنظيم ذلك الموعد الكروي القاري، سجل المتتبعون حكمة الموقف المغربي التي قطعت الطريق على المحاولات التي تسعى إلى تقويض علاقات الثقة التي تنسُجها المملكة مع شـركـاءها من القـارة الإفريقية.

و لكي نفهم جيدا أبعاد ما جرى في ذلك الملف، أشرتُ في مقال سابق، أن علينا أن نستحضر ما يُشكله تنظيم التظاهرة الكروية الإفريقية من إغـراء كبيـر لكل بلـدان القارة، لكونه فرصة لتعـزيـز الحضور في الإعـلام الدولي، والترويـج للبلـد المنظـم كوجهـة جيـدة للاستثمار وللسياحة، و حلحلة الإقتصاد و إحداث فرص شغل جديـدة، وتطويـر البنيات الأساسية، وتأهيـل الأمـن العمـومي، و تعزيز الإحساس بالذات الجماعية لشعب البلد المنظم في محيط معقد و صعب. وأبرزتُ أن كل تلك المغريات لم تدفع المغرب إلى التهافـت أو الانسياق وراء مصالح عـابـرة، بل تم تفضيـل شفافية الاختيارات و سمـو الحكمة في القرار الوطني بشأن سياسة بلادنا الخارجية عموما، و السياسة الإفريقيـة بشكل خاص، وفـق مقاربـة استراتيجيـة يحكمها الدفاع عن المصالح المشتـركة، والالتـزام بالمـواثيـق و العهـود و الشـراكات المـوقعـة، و بناء عـلاقات مستدامة تستحضر التاريخ النضالي المشتـرك للشعـوب، و تعتمد الاحترام المتبادل للمواقف، و ترنو إلى أفق التنمية و التقدم الممكن لشباب القارة السمراء.

في سياق هذه التفاعلات، قلت حينها أن علينا كمغاربة أن نبقى حذرين في تواصلنا المؤسساتي الرسمي الخاص بالشأن الكروي و الرياضي الإفريقي بشكل عام، و أن نُؤكد جيدا على أن ما تتخـذه الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم من قرارات، شأن خاص بها. وأن ليس لنا في تلك الهيئة سوى صوت واحد، كما لباقي بلدان القارة، ليس أكثر و لا أقل. و أن للكونفدرالية أن تُبـرر قراراتها إن شاءت، ولها أن تدافع عنها إن استطاعت، ولها أن تتحمل مسؤوليتها بشأنها أمام الجامعات الوطنية لكرة القدم بإفريقيا و أمام الرأي العام. أما نحن فعلينا واجب الالتزام بقرارنا الوطني السيادي، الذي تتحدد بموجبه مساحات الحركة الرصينة، والقواعد التي تضبط السيـر، والرؤية التي تحدد هـوامش الفعـل، دفاعا عن مصالحنا الاستراتيجية.

مرت أشهر على ما سبق، و تقرر منح دولة مصر الشقيقة شرف تنظيم الكأس الكروية القارية، و فشلت بذلك رسميا محاولات البعض الصيد في الماء العكر و الزج ببلادنا في أتون سوء فهم إضافي مع أبناء قارتنا. ثم استأنفت الرياضة ديناميتها العادية، و تتبعنا مشاركة الأندية الوطنية في المنافسات الكروية، وكلنا أمل بأن تشكل هذه الرياضة مدخلا لتحفيز الشباب على التواصل الإيجابي والانفتاح على الآخر، وتعزيز الروح الرياضية، و قبول التنافس الحـر من أجـل تحقيـق مكتسبات مستحقة.

ثم فجأة وبدون مقدمات تحول مـا كـان فـي الأصل سجـالا بشـأن مقابلـة في كرة القدم، بين فريق مغربي و فريق تونسي، وما شابها من أمـور لـم تُـرض أطراف اللعبة، إلى جـذبـة إعـلاميـة حقيقية أخذت أبعادا دراماتيكية تجاوزت الأعراف الأخلاقية و الدبلوماسية المعتادة بين “الشقيقين” المغرب و تونس.

شخصيا أصابني ما طالعته من تدوينات في صفحات التواصل الاجتماعي، و ما استمعت إليه من تعاليق و “تحاليل” لضيوف قنوات إعلامية مختلفة، تونسية على وجه الخصوص، بصدمة حقيقية، و دفعني إلى طرح التسـاؤل عن هـذا “الـرصيـد المخـزون” من “المحبة والأخوة و النوايا الطيبة”، أين كان متخفيا؟ وكيف أمكـن أن يكبُـر وينمـو، في غفلة من الجميع، إلى أن أصبح بهذا الحجم المُفـزع؟

كما ساءتني كثيرا محاولات إيذاء شعورنا الوطني عبر النبش في قضية الوحدة الترابية بما لها من قـدسيـة خاصة لدى الشعـب المغـربي، حيث بلغ الأمـر ببعـض “الإخـوة”، سامحهـم الله، حد التماهي مع أطروحة الانفصال، دون أن يستحضروا حقيقة أن بلادهم لم تكـن، في يـوم من الأيـام، طرفا معنيا بملف الصحراء المغربية، لا من باب الجغرافيا و لا من باب الاختيارات السياسية المعتمـدة في قصر قرطاج. كما لم يكلفوا أنفسهم حتى استحضار التطورات الراهنة للملف و حقيقة أن “أصحاب أطروحة الانفصال” أنفسهم، لم يعـودوا يعولون كثيرا عليها، وهم يترقبون الآن مخرجا يُمكنهم من تجاوز المأزق السياسي و الدبلوماسي و الأخلاقي الذي سقطوا فيه، بفعل صلابـة مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب، و بسبب انفضاح زيف ادعاءات الانفصاليين و فساد تدبيرهم، و كذا بفعل انشغال داعميهم بمشاكـل داخلية أكثر ملحاحية من قضية أصبحت ورطة حقيقية تربك صناعة المستقبل المشترك لشعوب المنطقة.

في خضم كل هذا السجال، و في محاولة لاستيعاب معنى ما يحدث، عُـدت بالذاكرة إلى أيام الجامعة لعلي أجد بداية أجوبة موضوعية عن جذور “تنافس” تحول فجأة إلى عدوانية في الخطاب و ضرب تحت الحزام. وتذكرت ما كان يقوله لنا أساتذتنا بكلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بالرباط، من أن تونس و المغرب بلدان يسيران في طريق النمو، و أنهما يتنافسان في عدة قطـاعـات (السياحة / صناعات النسيج / صناعات غذائية….). لكنني، و أنا أسترجع كل ذلك، أصارحكم القول أنني أحسست أن اعتبار ما بين البلدين مجـرد “تنافس”، ربما يكـون إحساسا نشعـر به نحن هنا في المغرب فقط. أما في الجهة الأخرى، فيبدو لي أن الأمـر ربما ابتعد قليلا، بالنسبة للبعض، عن مجرد الإحساس بالتنافس، ليأخذ شكل “حسيفة” (بالدارجة المغربية) مدسوسة في الأنفس و القلوب، و في عمق وجدان العديدين.

بكل صدق أعترف أنني صُدمت من ذلك العنـف اللفظـي الغـريـب الذي جاءنا من حيث لم نتوقعه، وأسرف أصحابه في عدم توقيرنا. حتى أنني أصبحت أقرب إلى الاعتقاد بأن علينا، بعدما كنا في منطق فرجوي على مباراة كرة قـدم، أن نتحـول إلى منطق “التعبئة العامة” و ندعـو مواطنينا إلى رفع الجهوزية و اليقظة وتتبع كل ما سيقال و ما سيكتب، و ما سيتناسل من أخبار زائفة و اتهامات غير مقبولة في حق بلدنا، قصد دحضها و الرد عليها، مع الحرص على أن يكون الرد بأدب و ألا ننجر إلى وحل مستنقع يكيد لنا فيه خصوم كثيرون.

وإذا كان صحيحا أن بعض الأصوات الحكيمة ارتفعت خلال الأيام الأخيرة، و منها أصوات هيئات إعلامية من البلدين، و أصوات بعض المفكرين و أصحاب الرأي العقلاء، إلا أنني متأكد أن ما جرى قد يتكرر في أقرب مناسبة، كما حدث قبل أيام، و بدون كثير عناء لإيجاد تبرير أخلاقي لذلك من طرف من خاضوا مع الخائضين. و بالتالي، ما حدث يفرض علينا تفكيرا مليا في الأسباب الحقيقية لما حدث من استهداف تعرضنا له، بشكل مبالغ فيه، و لا يمكن أن يكون مبرره مرتبطا فقط بموضوع مباراة في كرة القدم.

كما على الجهات المسؤولة، الرسمية منها و غير الرسمية، أن ترفع من استعداداتها تحسبا لفصول جديدة محتملة من لعبة “شـد لي، نقطـع ليـك” على الساحة الإفريقية، في الواجهة الديبلوماسية والاقتصادية و الرياضية، لأتفه سبب و حتى بدون سبب، ما دام أن مثل هذه “الجذبة/الحسيفة” متواجدة لدى بعض من كانوا، حتى وقت قريب، يتسيدون الموقف الإفريقي دبلوماسيا و اقتصاديا، و أصبحوا الآن لا يخفون انزعاجهم من التحرك المغربي و قلقهم من دينامية التعاون التي دشنها جلالة الملك محمد السادس، وتعززت بعودة المملكة المغربية إلى بيتها الاتحاد الإفريقي، و توقيع شراكات واعدة، تهدف إلى إرساء نموذج جديد منفتح للتعاون جنوب – جنوب.

المهم، أن ملفا بتوابل كروية، ما كان يجب أن يصبح سببا للمغالاة في الشوفينية و التعصب لدى الجماهير، صار حمية شعبوية غير طبيعية تمت تغذيتها بتصريحات مسؤولين ربما أنستهم اعتبارات انتخابوية ظرفية، أن علاقة الأشقاء لها قدسية و قيمة لا تقاس بعمر حكومة أو رئاسة. وأتمنى أن لا ينجر حكماء بلد “شقيق و صديق” كان المغرب، و سيظل، مساندا له على الدوام. وليس ترفا التذكير بما كان في الأيام الأولى لاستقلال البلدين، و ما كان أيام التهديدات المقيتة لنظام القذافي لتونس. و يمكن لأصدقائنا العودة إلى ما صرح به المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، في ندوة صحفية مباشرة، بكل شجاعة و روح المسؤولية، أن المغرب أخذ كل الاستعدادات ليكون على وجه السرعة في الجبهة الميدانية دفاعا عن تونس و شعبها، إذا ما حصل أي اعتداء عسكري من قوات العقيد الليبي.

كما أدعو الأشقاء التونسيين إلى تذكر ما كان أيام العُـزلة الرسمية التي فُرضت على تونس من طرف محيطها الرسمي الإقليمي و العربي، عقب تغييرات ربيع تونس 2010. و ليس أبلغ من سرد حدث ذو دلالة رمزية و سياسية بالغة، لا يقوم بمثله سوى الزعماء الأمجاد، حين اختار جلالة الملك محمد السادس أن يكون أول زعيم عربي يزور تونس ما بعد الثورة، و قرار جلالته تمديد  زيارته إلى ذلك البلد الشقيق لأزيد من أسبوع، وتحركه الميداني في شوارع العاصمة تونس، في تحدي شجاع لكل المخاطر الأمنية المحتملة، متحررا من أي بروتوكولات، وكأني بجلالته يقول للعالـم أجمع : “أنا ملك المغرب أتجول بكل ثقة في شوارع تونس… و أومن أن تونس الخضراء بلد آمن و يستحق الدعم و الثقة و المساندة”…. . فهل من حاجة لدليل آخر أكبر و أكثر دلالة على القيم الحقيقية التي يحملها المغرب، قيادة و شعبا، حتى نُقـنع من أساؤوا لنا أن عليهم أن يعتذروا بشجاعة و أدب…؟

على الجميع أن يعلم أن قلوب المغاربة لا تحمل الضغينة لأحـد، و أننا أبناء وطن غفور رحيم مسالم متسامح. و أننا من بلد لم يعتبـر يوما كرة القدم شيئا آخر غير لعبة رياضية شعبية تحمل الفرح و البهجة و التنافس الشريف، و أنها لا يجوز أن تُصبح قضية تستحق أن تقام لها الدنيا و لا تقعـد. ولكن، أقول أيضا لمن كانت ذاكرتهم ضعيفة، أن ذاكرتنا نحن لا تنسى، و أننا لا نطلب شيئا غير أن يُتعامل مع وطننا و رموزه، بكامل الاحترام و كامل التقدير و شديد التوقيـر.

أما مسألة العودة لإفريقيا، و ما سببته من ضيق لبعض الأطراف، فعلى الجميع أن يعلم أن ذلك الأمر أصبح واقعا لا رجعة فيه، و أنه كان قرارا سياديا مسؤولا يستحضر حقائق تاريخية وجغرافية واجتماعية وسياسية لا غبار عليها. و أن بلادنا ستستمر في نضالها المبدئي و مواجهة المغالين في عداوتنا لأسباب مصطنعة ومفبركة، من طرف من كانوا يضيقون على مصالحنا، و يستغلون “المقعد الفارغ” ليـروجـوا عنا ما يقـوي اعتقاد البعض أننا موجودون، ربما بالخطأ، في هذه الزاوية العليا من القارة، أو أن اهتماماتنا منحصرة في ما يأتينا من الشمال الأوروبي، أكثر من تركيزنا على ما يغذي جذورنا، جغرافيا وتاريخيا، من العمق الإفريقي.

المغرب لم يدخل إلى إفريقيا “من الباب الضيق، إنما من الباب الواسع”. كما أن المغرب “اختار تقاسم خبرته ونقلها إلى أشقائه الأفارقة، وهو يدعو، بصفة ملموسة، إلى بناء مستقبل تضامني وآمن”. والمغرب قرر أن جهوده بإفريقيا “ستنكب على لـم الشمـل، والدفـع به إلـى الأمـام”. و للمغـرب منظـورا “للتعـاون جنـوب – جنـوب، واضـح وثابت” مبني على أن “يتقاسم ما لديه، دون مباهاة أو تفاخر”، مع اعتماد التعاون “ليصبح المغرب، وهو فاعل اقتصادي رائد في إفريقيا، قاطرة للتنمية المشتركة”.

تلك هي حقيقة الوضع، و تلك هي المبادئ التي يتأسس عليها تحرك المغرب إفريقيا. أما الباقي فلا يعدو أن يكون سوى تفاهات لا تزن وزن الريح الذي نفخت به الكرة الملعونة التي أشعلت شرارة الخطيئة في ملعب غادس. و لكن، كما يقول أولاد بلادي… “الله يجعل القلب سميح”…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *