عبد الرزاق بوتمزار

فضاءان لِعالَم واحد..

ذابت تلك العصابة التي كنّا نشكل خلال الطور الثانوي وسط الكتلة البشرية الكثيفة التي استقبلتها كلية “الدّاوديات”.. قليلون منا أسعفهم الحظ في تجنّب تجربة “لافاكْ”؛ مثل عبد اللطيف الحشّادي وأحمد البدوي، اللذين التحقا بمركز تكوين المُعلمين في الرّباط. وحتى مَن وجدوا أنفسَهم يخوضون هذه التّجربة، في ظلّ غياب بديل وليس لسبب آخر، فرّقتهم التوجّهاتُ والشّعَب التي اختاروا.

هكذا، تَسجّل عبد الإله في التاريخَ والجغرافيا، قبل أن يلتحق، في ما بعدُ، بسلك الشّرطة؛ فيما اختار عبد الصّمد(2) وجواد كلية الحقوق. ولأننا ظللنا نُشكّل مجموعةً متجانسة حتى خارج فصول الدّراسة ونشأت بيننا علاقاتُ صداقةٍ متينة، لم نكنْ نستطيع أن نصبر على الافتراق عن بعضنا البعض كثيرا.. عندما كنتُ أجد نفسي غيرَ قادر على متابَعة إحدى المُحاضَرات كنت أنسلّ من المدرَّج بهدوء وأذهب للبحث عن عبد الإله في مُدرَّج التاريخ والجغرافيا. “أقتلعه” من مجلسه ونتوجّه، معاً، إلى المبنى المقابل: كلية الحقوق، حيث كنّا نلتقي جواد وعبد الصّمد(2).

مُدرَّجاتُ كلية الحقوق أكبرُ من نظيراتها في كلية الآداب. كنّا نلِج المدرَّج من باب عُلوي. نتسمّر قربَ الباب ونمسح بأعيننا المسرحَ الكبيرَ: مئاتٌ من الطلبة. لم تكنْ مهمّة تحديد مكان الشّخصين بالأمر الهَيّن؛ لكننا كنّا ننتهي، دائماً، إلى إيجادهما. نقصدهما ونتدبّر مكاناً نجلس فيه إلى جانبهما، لنخوضَ في أحاديثَ جانبية، كما هو حال غالبية الطلبة والطالبات. كان المُدرّج يشهد لغَطاً وصخباً صارخَيْن، خُصوصاً في صفوفه الخلفية، رغم أنّ مُحاضَرات الحقوق طويلة ومعقدة وتتطلب قسطاً وافراً من التركيز لفهم شروح الأستاذ المحاضر وإيضاحاته؛ وإنْ كانت تلك المُحاضَرات، في مُجملها، مطبوعةً في كتب تباع في المكتبات المحيطة بالكلية.

في أحيان أخرى، كثيرةٍ، كنتُ أقصد خزانة كلية الآداب، التي تُوفّر مجموعة من الكتب والمَراجع. كان الحصول على أحد تلك الكتب يوجب إيداع بطاقة الطالب لدى القيّمين على مكان لم تكنْ تُحترَم، على الإطلاق، خصوصيتُه، التي تستوجب قدْراً أكبرَ من الهدوء. بين الفينة والأخرى، كانت بعضُ الأصوات ترتفع احتجاجاً على الضّجيج الذي يعُمّ المكان؛ احتجاجاتٌ يبدؤها بعضٌ ممّن يريدون التركيز في ما يطالعون، ضدّ صنفٍ آخرَ من الطلبة الذين يُفضِّلون عقدَ “اجتماعات” وإدارةَ نقاشات، قد تصل حدود الصّخب، في المكان غير المُناسب لذلك بتاتاً، في الخزانة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *