عبد الرزاق بوتمُزّار

 

اليوم الـ15

“يحفظ المغاربة ليوم الخامس عشر رمضان مكانة خاصّة في عاداتهم وسلوكهم”..

تجتمع العائلات (في المُدن العتيقة) حول “فْرّوج” بْلديّ أو “قْنيّة”. يبلعُ المجتمعون الكثير من “التّريدْ” ويكرعون غيرَ قليل من كؤوس الشاي والأعاصير وما تيسّر من غْريّبة وكعبْ الغْزال وسْفوف.. عائلاتٌ أخرى تكتفي بنصف دجاجةٍ، أو حتى بـِ”رابْعة”، يقتنيها ربّ الأسْرة مِـن أحد دْجايْجية الحومة (لمخاشْفة؟) ويتلذذ الأولادُ بمصّ عظامِها إلى آخرِ نشوة، وكؤوسُ الشّاي تدور.. المُهمّ أن تجتمع “العائلة” وتحتفل بانصرام “نص” رمضان الأوّل..

السابعة. حركةٌ في الأرجاء. أستفيقُ مِـن نومة ما بعد العصر. غرفة خالية. الحركة في الشّارع في أوجها. تشي بذلك الأصواتُ المُتسللة عبر النافذة المُشرَعـة على الحيّ الخلفي. كان في “البرنامج” أن أفطر في الـرّباط، لكنْ تشـاؤون ويشاء، الله. سأهدهدُ وحدتِي في “الرّيستُو” الضّيقِ. أبتلع الحوتات الستّ أو الأربع وأؤجّل لـُقيى أحبّة في العاصمة إلى موعد آخَر.

أنْ “يترمضَنَ” الرّجل، في مُجتمع الذكورية -كما يحلو للبعض أنْ يقولوا بمناسَبة وبدون- أمرٌ “عـادِي”.. أرَى ليَ إلى “تـّقطعاتْ” عليكْ شِي سيّدة ما بينكْ وْبينها لا وْرثْ لا شْرْكة…

كان في “الرّيستو” ثلاثُ سيدات، إحداهنّ مع صغيرتها واثنتان يبدو أنهما قريبتان. كعادتي، لبثتُ أشـاكسُ طباخة الحيّ الخلفي ريثما تتدبّر لي مساعِدتها أو زوجُها مجلسا.. التحقَ شخصٌ اعتدتُ رؤيته في المكانِ وقتَ الفطور. فوق الخمسين. أطلّ على داخل المحلّ، ولمّا وجدهنّ تراجع إلى الخلف وهمس لي بتعليق..

أمضينا لحظات انتظار الأذان ونحنُ نتبادل تعاليقَ ونظرات. في الدّاخل كان قد حضـر شخصٌ آخـر (قال لي الرّجل الخمسينيّ، في ما بعْدُ، إنه “مُرافقُ” الشّابّة أم الطفلة الصّغيرة). ثمّ التحق آخر، لوحده، رأيتُه أيضاً هنا في إفطـارٍ سـابق. فسيّدة رابعة. طـاولتان كـانتا كـافيّتَين كي يُحقـّقَ “الـرّيستـو” الشّعبيّ “الپّـْلانْ”..

فجأة، قامتْ إحدى السيدتين (اللتين خمّنتُ أن قرابة تجمعهما) وطلبتْ مجلساً في الطرَف الآخر مِن المحلّ، حيث الطـّباختـان وزوج “مديرة” المطعم. تبعتها الأخرى (أصغر منها سنا). تدبّـرتْ لهما الشّْريفة كُرسيّيْن قبالة طـاولة اعتاد أن يُفطر حولها “موظفو” الرّيستو. كانَ الأذانُ قد سُمع في الأرجاء. هجمت الأيادي على ما في الأطباق والكـؤوس.

هممتُ بابتلاع نصف بيضة، عندما سمعتُ السيدة تتفوّه بما أوحى للسّامعين بأنها قد تلقّفتْ تعليقَ الرّجُل الخمسينيّ (حين همس بَعْد أنْ وجدهُنّ قد “سبقنه” إلى الطاولة حيث اعتاد أن يزدرد حُوتاتِه ويشرب عصيره، الذي يُحضر معه). بعْد أن يشـرب كوب الشّايِ الأول، كان يملأ الكأسَ مُجـدّدا ويُغادر إلى باب المحلّ حيث يُشعلُ سيجارة “كـازا” وينفثُ دخّانها في وجه الشّارع، دون كبيرِ نشوة. لكنّ كلامَ السّيدة استفزّه اليوم.. هَمّ بالرّد، حين نظرتُ إليه ولكزتُه أنْ: لا داعيّ..
بدتْ على وجهه علاماتُ التـّضايُق مِن تعليق المرأة. وجدَ أنّ “تْرمضينتها” بدون مُوجب. (بلْ أنتَ مَن “دققتَ عليها الباب”) قلتُ لي، وأنا أحاول أن أهدّئه بلا كلام.

أجبتُ بدلَه. حاولتُ أن أشرحَ للمرأةِ المُحترَمة أنْ لا داعيّ لتكبير الصّغائر.. إنْ هيّ إلا لحظة، قلتُ، ويقومُ كـُلّ واحد منا إلى حال سبيله.
(أحتّى في اليومِ الذي تجنّبتُ فيه النزول إلى السّويقة لنْ تنقصَني قصص!؟)..

واصلتْ هي غضبتَهـا: “لدينا، كلنا، جُدرانٌ نلوذ إليها.. إنْ أنا جئتُ أفطر هنا فلأنني أنا اخترتُ ذلك وأردتُه، أنا!”..

(ألالـّة، وانـَا مالي؟) قالتْ ألسنةُ حالِ الحاضرين، وقلتُ لي.. (أفـْطري حيث شئتِ وكيف شئتِ.. هـل ضـروريّ أن يشرَح كل واحد منا دوافعه إلى هجرة حيطان وحْدته وهدهَدة غربته هُنا؟)..

قاطعَ أفكاري الرّجُل الخمسينيّ الثّرثار وهو يفتّش في جيوبه، دلالة أنه يُريدني أن أفسح له ممرّاً كي يُشعلَ “كازاه”..

دقيقة! قلتُ له. سأقوم، أيضا، بعد جُرعة الحريرة المُتبقية في أنيتي، كي أبدّل السّاعة بغيرِها..

وأمام كأسَي شاي بارد، نفثْنا دخانا في شارع خلفي على وقع كلام غيرِ مُجْد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *