عبد الرزاق بوتمُزار

 

ح. 13

عندما ذهبَ صديقي ليُقدّم فيَّ العزاء!

تحسّنتْ أحوالي بمرور الأيام؛ فبدأتُ أتجرّأ، يوماً بعد آخَر، على الابتعاد أكثرَ فأكثر عن الجناح حيث كنتُ نزيلاً. كان توفيق، ابن الحارس العامّ للمُستشفى، قد قاسَمَني مقاعدَ الدّراسة قبل عام في المنصور الذهبي. بعدما علم أنّني أخضع للعلاج هناك، داومَ على زيارتي، في أوقات الليل المُتأخّرة على الخصوص أو في الساعات الأولى للصباح.

كان يُقيم وأهله في مسكن إداريّ يقع عند المدخل الرّئيسي للمُستشفى. رفقة توفيق، الذي يحفظ المكان جيداً، كنتُ أزُور جميع مَرافق البناية، الشّاسعة والمُمتدّة. جعلني أكتشف مناطقَ مُستغلقة لا يمكن للمرء حتى أن يتخيّل أنها تُشكّل جزءاً من رقعة المكان.

مدفوعاً بفضول غامض، أو ربّما لطرد بقايا الرّتابة التي ضبطت إيقاع رقدتي الطويلة فوق ذلك السّرير البارد، كنتُ أكتفي بالسّير خلفَه والاستمتاع باكتشاف تلك الأسرار والحقائقَ المُذهِلة. كنّا نتسلل إلى أشَدّ الأماكن استعصاءً، دون أن نُثير انتباه أحد. نتحرّك مُستفيدَين من ضعف الإنارة وقلة أعداد المُداومين. وحتى عندما يَضْبطنا أحدُهم في مكان محظور على نزلاء المؤسَّسة الاستشفائية سرعان ما كان يتركنا وشأنَنا بعد أن يتعرّف على هوية مُرافِقي.

عاينّا مواقفَ طريفة ووقفنا على أمور لم تكن لتخْطر على بال.. ذات مرّة، أخذني توفيق إلى إحدى غرف المُستشفى النائية والمهجورة، حيث كان أحد المُمرّضين يختلي بمُمرّضة. تناوبْنا على الإطلالة عليهما من خلال نافذة خلفية؛ رأيناهما وهما يقومان بأشياء لا تمُتّ إلى أعمال التمريض بأية صلة..

وذاتَ مرّة، قادني إلى اكتشاف مُذهِل، إلى إحدى الزّوايا البعيدة، حيث كانت لالّة فاطمة تختلي بنفسها لتُدخّن بعيداً عن الأعين المُتلصّصة. أي، نعم، لالّة فاطمة، السيدة التي يحترمها الجميع هنا.. كانت عجوزاً وحيدة وصَموتة، في أرذل العمر. تشتغل في توزيع الوجبات الغذائية على نزلاء المُستشفى. كنّا نقتحم خلوتها ونُراقبها من بعيد وهي تنفث دخان سيجارتها في انتشاء؛ مثلَ مُراهِقة في بدايات الابتلاء كانت تبدو لالّة فاطمة.

أما “بطلُ” أكثرِ ما وقَع طرافةً وأنا نزيل المُستشفى فكان صديقي مصطفى.. حضر المسكينُ إلى المامونية لعيادتي، بعد أن علم بخبر مرضي ونقلي إلى المُستشفى. سأل عنّي إحدى المُمرّضات، بعد أن اهتدى إلى الجناح حيث كنتُ لا أزال في أيامي الأولى، مُوزَّعاً بين الحياة والموت. راح ضحيةَ تشابُه أسماء. صادفتْ زيارتة لي وفاة مريض شابّ يبدو أنه كان يُقاسمني الاسمَ وحتى الأوصافَ! تقدّمَ مصطفى من مُمرّضة عند مدخل الجناح وسألها عن مكان وُجودي. قالت له، بعد أدلى لها بأوصافي:

-يؤسفُني أن أخبرك بأنّ الشّخص الذي تسأل عنه فارق الحياة هذا الصّباح تحديداً!

جمدَ المسكين في مكانه وقد صعقه هولُ المفاجأة. عاد أدراجه إلى الحيّ باكيا. قطع المسافة الفاصلة بين المُستشفى وبيتنا وهو يُكفكف دموعه. طرقَ باب المنزل. فتحت له والدتي الباب واستقبله بالابتسامة نفسِها. لم يكن يظهر عليها ما يَنِمّ عن حزن أو كمَد. ولم يَسمع بكاءً أو ولولة صادرَيْن من المنزل.. وبين ذهوله وحيْرته، أخبرته والدتي بأنّني لستُ في المنزل وبأنها قد زارتني للتو في المُستشفى.. ثم دلّته على الجناح ورقم الغرفة حيث أرقد.

في اليوم الموالي، زارني المسكين بفرحة لا توصف، تعكسها ابتسامة تُزيّن ملامح وجهه المبتهجة لأنّني.. كنتُ لا أزال على قيد الحياة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *