عبد الرزاق بوتمُزّار

اليـوم الـ11

بدرجة حرارة تفوق، في العادة، السّابعة والثـّلاثين في شهـر الصّيام (صيفا) لا يُمكنكَ -أنتَ النّائم حتّى الحادية عشرة صباحا- إلا أن تُقـرّ: كان الله في عَـون من سيتحمّلُون لهيب السّياط في درب البحث عن اللّقمة قرب جُدران كلّ هذي البناياتِ العاليات. كبُرتِ، أيّتها المدينة الجاحدة وقد بعتِ حواريكِ للبرّاني وشيّدت بكرامةِ أبنائك صُروح المُتع للعابرين..

الحاديّـة عشرة والنصف. قد نمتَ حدّ التخمة. الحرارة تُطوّق البيتَ الصّغير مِن كّلّ جانب. كان الجميعُ قد استيقظوا. يهجمون عليك بمجرّد ما تخطو خارج الغرفة. اللّهفة مُشترَكة، الشّوقُ كبير..

تلسعُك الأشعّة المُتسرّبة من زجاج الباب الخارجيّ وأنتَ تهُمّ بولوج دورة المياه.. تمكنت الحرارة من حيطانِ المنازل في الأحياءِ الخلفية. وبعيدا، على عتبةِ الجُدرانِ العاليّة تتمرّغُ كرامة قاطني أحياء الهامش في وحل البحث عن الخبز اليوميّ. وأنتِ، غيرَ آبهة، تكبـرُ فيكِ الشّوارع، تعلو الجدران وتجفّ منابع الرّحمة، أيّتُها المدينة الإسمنتيّـة الـْبِلا روح، والشّهرُ مَـودّة..

في حرارة مثلِ هذه تكفي أدنى حركـةٍ كي يـرشح الجـسدُ بكـُلّ الميّاه التي شرب والتي لم يشربْ بَعدُ.. ولكي تفهم، اسألْ كيف صامَ عـاملُ البناءِ، المُياومَ فـي رصيفِ الخبز الحارّ، الفـلاحُ في الحقول العارية.. اسأل “طالْب مْعاشُو” واللقمةُ غيرُ وافرة؛ اسأل سائقَ التّاكسي والشّاحنة والحافلة.. اسألْ عاطلاً عَن الحياةِ؛ كيف يُمضون يومَهم صائمين تحت لفح زمنٍ لا يُشفق، والشهرُ مودة ورحمة..

بعد دوش بارد، أشعلتُ “المشقـوف” وجلستُ أمامه، وقد وزّعتُ تحذيراً لعُموم أحلى عشّاقٍ في الوجود: رجاء، حان موعد الكتابة..

تحت إلحاح مهدي، اقترحتُ عليه اقتراحا مُناسبا للجميع: سأشطر هذه الشّاشة نصفين: شطرا تـُشاهدُون فيه رسـومَكم المُفضَّلة وشطرا أخُطـّ فيه، بالموازاة، خربشاتي (التي لا تحتمل التّأجيل)..

وكيف يُمكنكَ فعلُ ذلك، تساءلتْ عيناه.
-اُنظر، سأشغّل، أولاً شريطكُم الكرتونيّ، أصغّره هكذا، ثمّ أباشر الكتابة في الجزء المخصَّص لذلك، بهذه الكيفية..
اتّخذا وضعا مُناسبا، مهدي وإلياس، فيما الرضيع زهير يكتفي بالتّحديق في الصور المُتتالية أمامه، وهو يحاول الإفلاتَ من رقابتي والاقترابَ من لوحة المفاتيح، ليضرب فوقها ضرباتِه غيرَ مُبالٍ بشيء.

حين تخطيت عقبة بداية اليومِ العـ10ـاشر، ولأنّ شغبَ الرّائعِين الثلاثة من حولي قد أخذ يتصاعـد لذة، أقفلتُ صفحـة الـ”Word” وانخرطتُ معهم في لعبٍ جماعيّ لا تشوبه شائبة ولا تحكمُه ضـوابط. وفي حضرة عصافيري الثـّلاثـة ينفرط الوقتُ سريعاً وأنا أشُدّ عـلى تلابيبه مُحاولاً، بدون نجاح، إيقافه أو على الأقلّ تأخير عجلته.

تمهّل في انصرامك، أيها الـزّمنُ الأرعنُ، امنحْنا لحظات لا تتكرّر كثيرا..
هيهات!..

السّادسة. نسماتٌ غيرُ معتادة تبّ من الباب الخارجيّ، تـُغري بجولةٍ مسائيّة في السّويقة.

-بشحالْ هادْ بُوعْـويدْ، أصاحْبي؟

-كايْنة سْـتـّ600ـميّة وْكـاينْ عْـشـ20ـرينْ دْرهم.
يُجيب الخضّار الشّاب، وهـو يواصلُ لفّ بلاستيكات زبائنه وجمْعَ الحساب والدّراهم.

تختلف السّويقاتُ، بين غرب وشرق، بين شمالٍ وجنوب، لكنّ الأسعارَ مُوحّدة، مُلتهِبة، كما الأجواءُ في صيـفِ الجنوب.

-وْهادْ الكْرموس؟

-هاداكْ تْلتـْ300ـميّة وْستـ60ـينْ رْيالْ، سطّاعشْ ردهم!

-وْلـْعنب؟

-تـْلتـْ300ـميّة وْستـّ360ـينْ! 18 ردرهْم. (بينّي وْبينـComـُنّ، بْقى ليّ عَـا لعدْس ما سُوّلتْ عليه.. واه، بيتُوني نشربُو ف الحْريرة وْنقسّيه ديسيرْ، يا عديانين الله😺)

صُمْ، أيّها المِسكينُ، وأفطرْ حَريرة وتـمْراتٍ والعصير (لِمـن استـطاع إليه خيارا وليموناً وجـزراً).. أشْ بينْكْ وْبينْ شي ديسيرْ!..

انحنيتُ عـلى صندوق الكرموسْ. هُنا، عـلى الأقـَلّ، لكَ حُرّيـة الاختيار.. (حُرّيـة الاختيار؟.. حرّية اختيار حبّاتِ الفـاكهة الـّتي تشتهي، بل يقدْر عليها جيبك، في بلادْ شري تندغْ، كْري تباتْ، لولا أنّ… المدينة مدعية). أقول، هُنا، على الأقـَلّ، لكَ حُرّيـة الاختيار.. وليس كما في سْـويقاتِ المُدنِ -المركز.. وطبعاً، لا بدّ مِـن قنّينة الرّايب.

حـين هممتُ بتناوُلِ سَطْلةٍ مِـن مْحبوبتي، كـان البائع قد وضعها جانباً كما طلبتُ منه حين ولـوجي السّويقة.
قالتْ مُولاتْ الدّيطاي، البائسة، مخاطبة بائعَ المْحبوبة، البائس:

-راهْ گـْلتْ ليكْ هادْ لـْبلاصة ماشي ديالْ الكـْرموس.. راهْ كـُنْ بيتُو كنْ حطّيتْ مْنـّو صنادْق.. إيـوا بْعّـدْ عْـليّ هاديكْ لـْكـرّوسة لّهيهْ!..

حين غمغم بردّ، أحاط بـه اثنان (تبدو على ملامحِهما “آثـار” الصّيام، وأيضا، دلائل الانتمـاء إلى قبيلـة المتحدّثة وأمارات زيارات سابقة لبولمهارزْ).. خـاطبه أحدُهما:

-غيرْ بلا ما تـْخسّـْر مْعاها لهضرة، راكْ عارْف.. سيرْ، أخويا لّهيهْ ووقـْفْ.. راااهـُوما صْحابْ الهْنديّة فينْ واقـْفينْ.
دفـعتُ له الدّرهـمَ المُتبقّي وتناولتُ الپّلاستيكة التي تـحوي سطلة الكـرمُوس واشتريته.. شريتْ السّْلـْك..
(وأنـا أختار حباتِ “كـرمـُوسْ لمْسـلـْمينْ”) سمـعتُ مُـولاتْ الـدّيطـاي، فـي بـداية “حوارِها” مـع بائع كـرمـوسْ النـّصارى، تـُخاطبـُه، وهـي تـُعدّل وضعَ صنـدوق أمـامهـا، اصطفـّت عليهِ علبُ سجائر حـمراء:

-أسّـي محـمّد، هـادْ لـْكـرّوسـ ديالك راهَـا مْعرقلة السَّيرْ وْحابْسة الطريقْ.. كـُونْ غيـرْ دْبّرتِ ليكْ عـلى شـي بْلاصة أخرى، ما عْـنديشّ مْـع الشّـُوك..

-صـافي، غـيرْ هادْ لـْكـرّوسة دْيـالي هـيّ اللي مْعرقـْلة السَّيرْ هْنا؟! هـا أنتِ، ها الطّريقْ..

أجـابهـا البائسُ (ويبدو أنـّه جـديدٌ عـلى المكـان) ولا يعـرف أنـّه لا يجب مُخاطبَة “نعيمة” مُولاتْ الديطـايْ بتلك “اللـّهجة”..

-عـاودْ، عـودْ أشْ كـْلتِ.. واشْ نـْتوما غيرْ اللـّي هـضرْ مْعـاهْ بْنـادمْ يـْبدى يديـرْ ليـكْ بحال ولـدْ شِي (………) وازيدْ(………) مْـن حْدايا، رانْ تـيْجدْمني الشّوكْ وْلاّ راهْ دابـا تـْولّي تْجمعْ فهادْ (……….) مْن تـْحتْ الـرّجـْلينْ!..

بلع البائس لسانه، خصـوصا وقـد أدركَ أنّ النـّظرات المُحيطة لا تُشجّعه على إظهـار شجاعة غير مأمونة العواقب. ودفـع كـرّوستَه يبحث عـن مكانٍ آخـر.

فـي الأفـق ثمّة شمسٌ لافحة حتـّى وهـي تستـعـدّ لمغـربِ اليـوم الحادي عشـر، ذاتَ رمضـان..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *