عبد الرزاق بوتمُزّار

ح. 5

باريز، الصّارُوخ، التّيمومي والآخرون..

عندما اكتشفتُ السّاحةَ، ذاتَ هُروب من إحدى حصص الرّياضيات، لم أكن أعرف أنّني أخطو أولى خطواتي نحو عالمٍ صارخ بالغرابة والتفرّد والابتلاءات؛ كما لم أكن أدرك أن ارتيادي المكانَ سيُكّفني سنواتٍ من عمري ضائعات.

بعد جولات بين مُختلف الحلْقات التي تُؤثّث، بشخصياتها الغريبة والكثيرة، فضاءَ جامع لْفنا، انتهى بي المطاف إلى تفضيل حلقات الرّواة على غيرها. في تلك الثمانينيات الجميلة، كانت الحْلقة لا تزال تتوفر من المُقوّمات والشّروط على ما يؤهّلها لأن تستحق اسمَها.. أذكر ما آلت إليه الحْلقة في أيامنا الرّديئة فيتملّكني إحساسٌ قويٌّ بالحنين والألم في الآن ذاته؛ شتّان بين أيام الصّاروخْ والدّكتورْ وباريزْ (الماضي) وما بين أيام الرّجال/ الشّيخاتْ والشّلحْ ولْعرُوبي وقاتَا “بْريسْلي دِي مارُوكْ” (الحاضر)!

كان الصّاروخ إذا انتهى من تجميع حلقته، يقف وسطها شامخاً مثلَ الكُتبية مِن خلفه، صارماً مثلَ تفاصيلِ مَحكيّاته الفاتنة. لم يكن أحدٌ يجرؤ على مُجرَّد السّعال والصّاروخ يتكلم! كان جميع الواقفين يعرفون مدى قوته وبأسه إذا غضب. الصّغار؟ كان محظوراً عليهم مُجرَّد الاقتراب من دائرة نفوذه. حتى أتجنّب أن يقع بصرُه على جسدي النّحيف كنتُ أختبئ وراء جثة أحدهم وأسترق السّمعَ للحظات، ثمّ أنسحب بهدوء قبل أن ينتبه إليّ.

أمّا التّيمومي، وهو يخُطّ على الأرض، فأنتَ تخالُه عالِماً حقيقيا يفُكّ مُعادَلات مُعقـَّدة. يحسِب، بالدّرهم والسّنتيم، ميزانية المغرب؛ فيُخبركَِ “كم يُفترَض أن يتقاضى المغاربة من دولتهم عند نهاية كلّ شهر من عائدات الفوسفاط”!.. أمّا إذا صادف مرورُك في السّاحة وُجود باريزْ في إحدى حلقاتها فلا أنصحك بتغيير المحطّة! لا تكون حصّة الرّياضيات وحدَها ضحيةَ غيابي عن فصول الدّراسة إذا حدث وصادفتُ باريزْ في السّاحة..

كان ذلك أيّامَ الحكي الجميل والكلمة الصّادقة؛ أمّا اليوم فإنّني لا أجد، عندما أضطرّ إلى التوقف في المكان، أفضَل من مجموعة غنائيّة اختارت لها، أسلوباً وأداء، ريبرتوار الأغنية الغيوانية، أو مجموعات أمازيغية ما زالت قادرةً على تحريك بعض الأوتار في الدّواخل. أمّا الباقي فالأحرى بالمرء أن يتجنّب إضاعةَ وقته فيه. روادُ الحلقة الحقيقيون إمّا ماتوا أو شرّدتهم الحياة في دروبٍ ومسالكَ بعيدة عن السّاحة وقبضتها الآسرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *