مجمد جلايدي*

بعض اللحظات تحبل بأفقها المبهم، لأنها لا تحمل في ثنايا مجرياتها مؤشرات تبرق كالوميض، لتحيل إلى جوهرها الآتي! ومن بين ما يحيطها بالإبهام ألم المخاض الذي يواكبها، فيهيمن على خلايا الدماغ! وهيمنته تحرم الخلايا تلك من تمثل أولي للأفق ذاك! وحاضر اللحظات من هذا النوع، ألم ووجع يتناميان في إيقاع سريع، كألم ووجع الوضع تماما! إنها اللحظة الطفرة!

وعندما ينبلج فجر الأفق ذاك، وينجلي بمؤشراته، يأخذ الدواخل إليه، فينخرط ألم المخاض السابق في الذوبان، كما تذوب الملح في الماء! وريدا رويدا تذب في العقل والوجدان، ألفة مع الوضع الجديد! وتستمر الحياة! وبعد مسافة من الزّمن، يفرز الوضع الحياتي، الذي كان من قبل مبهما وقاسيا، عن جمالياته الخاصة به! لحظتها يصير الوضع السابق مجرد ذكرى! وباستحضاره كذكرى، يتمكن الدماغ من إرساء قواعد القياس! وتلك جمالية حياتية أخرى!

والأجمل أن يجد المرء في أرشيفه الخاص صورة فوتوغرافية تؤرخ لحظة التحول، كطفرة محصورة في زمان ومكان التحول وما واكب ذلك من وجع المخاض، قبل أفق الوضع! وهذه الصورة ترتقي من مجرد التوثيق العادي لمجريات حياتية عادية إلى اكتساب قيمة تاريخية في مسار حياة! فليست كل صورة فوتوغرافية تكتسب هذه الميزة الحياتية!

وهذه الصورة من هذا النوع! لا تؤرّخ للحظة عادية ضمن مسارٍ حاتيّ عادي! لأنها ترتقي إلى مصاف الصور الفوتوغرافية ذات القيمة التاريخية، في مسار حياتيّ شخصي؛ وبذلك صارت وثيقة تاريخية! في هذا المسار الحياتي الشخصي!

أمسكت بالصورة هذه الأيام، فصدحتْ بصوت الراحلة هدى سلطان:
-“إِنْ كنتِ ناسي أفكرك!”…
وفي أجواء هذه التحفة الطربية، حضرتني ثلاثة سياقات مرتبطة بالصورة:
-سياق بداية عهد ونهاية عهد، على مستوى المؤسسة الملكية؛
-سياق السلم الاجتماعي الذي بصم مرحلة العهد الملكي الجديد؛
-وسياق الشكر الملكي للمركزيات النقابية في خطاب 20 غشت 2014، الذي جاء فيه بالتحديد النصي:
“(…) نتقدم لكل المنظمات النقابية بعبارات الشكر على دورها الكبير في توطيد السلم الاجتماعي، بمفهومه الشامل، خلال 15 سنة الأخيرة، دون التفريط، بالطبع، في مبادئها الثابتة، دفاعا عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والإقتصادية للطبقة العاملة (…)”.

فغنيتُ للأنا في الصورة:
-“إِنْ كنتِ ناسي أفكرك!”..

كنت أتلو بيانا على جمع من الحضور، لأودع فيه ميكانيزماً حركيا! وكان هذا الميكانيزم الحركي قد اكتملتْ دورته الحياتية واتجه نحو العدم! قناعة منّي، وقتذاك والآن أن كل ميكانيزم حركي، إذا ما انخرط في التنكر لشرط وجوده الأصلي، انخرط في أفق الزوال! لأن التنكر لشرط الوجود مسخٌ بئيس لهوية الوجود! وهذا المسوخ للهوية يطال، مع الأسف، كل النسيج العلائقي بداخله! فتسقط قيمة المعنى عن محمولها اللفظي! ويفقد “الوعد” دلالته المؤسسية التي تبلورت في مرجعية شرط الوجود! التي صاغها رواد التأسيس أثناء لحظة التأسيس ودواعيها الآنية والإستراتيجية!

ورغم أن اللحظة طفرة تبلورت بقناعة جمعية، فإنها لا تبعد عن الذات الفردية، ألم القطيعة كمشروع! فما بال المرء عن حاله إذا كان في اللحظة تلك ناطقا باسم هذه الجماعة الرافضة! وكيف يكون حاله في دواخل نفسه وهو يتلو بياناً يبسط فيه، بالمحاججة المعللة، مظاهر ووقائع الانحراف عن شرط الوجود، التي لا أفق لها إلا السقوط في منحى العدم؟!

كنت كمن يمزّق جلده بآلة حادة! لأني كنت مقتنعا لحظتذاك بأن رفض العدم هو انطلاقة نحو عدم من نوع آخر! سماته “اللاجدوى الحياتي” و “الخواء الداخلي”، بعد حياة من الإيمان بعدالة قضية مجتمعية وطنية وإنسانية! تماهت معها الذات وتماهت بها وتماهت من أجلها! لأنها عادلة وصادقة ولأنها حق ولأنها في المحصلة حياة ووجود بكرامة في مجتمع توالت عليه كل أسباب الحرمان من أجل العيش بكرامة!

حملت ألمي معي وأنا أنزف! ولما طال النزيف، نصحني صديق:
-سافر إلى تطوان، فهناك ندوة إبداعية موضوعها “الرواية المغاربية إلى أين؟”، وستستبدل حالا بحال إلى أن يحلها حلاّل.

عملت بنصيحته. وفي أجواء مجريات الندوة تلك خرجت من لغة البيانات وخطاب القطائع وما يرافقهما من حجاج إلى لغات أخرى وخطابات أخرى ونسيج علائقي قاعدته: مبدعون ونقاد! وكم كنتُ رائق المزاج، وأنا أتتبع منازلات النقاد للمتون الروائية المغاربية! وذلك مرده إلى أمرين: اكتشافي مسار الحقل الإبداعي الروائي للمبدعين المغاربيين . ووقوفي، عن كثب وبالملموس، على تطور مستوى النقد الروائي في بلدي. وهو نقد اعتمد على المقاربات اللصيقة للنصوص وقطع بكيفية صارمة مع كل أنواع القراءات التأويلية، ذات الطابع الإيديولوجي، التي تحاكم النص بما هو خارج عنه!

ولم أستطع مقاومة الرغبة في التدخل والمساهمة في النقاش! وقد حملتْ مساهمتي طابع الافتخار بغزارة الإنتاج الإبداعي في البلدان المغاربية، مع تأكيد دور النقد الموضوعي في إبراز مكامن القوة والضعف في هذا الإنتاج ،خدمة ودعما لهذه المسيرة الإبداعية الروائية كي تأخذ مكانتها ضمن مجمل العطاء العربي والإنساني!

فعلق أستاذ من جامعة تطوان على تدخلي، موجها الكلام لي مباشرة، وأمام الحضور، قائلا:
-لقد استرددناك يا محمد.. فمكانك هنا وليس هناك!

قالها وتوجه نحوي وعانقتي! وبعناقه لي، ذب شلال أفق جديد في حياتي! وشفيت للتو من جراحي ونزيفي.. فأدركت لحظتها والآن، بأني كنت في الجبهة الخطأ.. ومنذ ذلك اليوم وأنا أكنّ لهذا الصديق أروع مشاعر الحب والامتنان والاحترام والتقدير! فلولاه لما رحلت عن اللاجدوى الحياتي ولما قهرت الخواء الداخلي في أعمق أعماقي!

وأنا الآن أغني له (ولمن ذكرني به وبالصورة وسياقاتها):
-“إِنْ كنتِ ناسي أفكّرك!”…

*كاتب وناقد أدبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *