بقلم : يونس التايب

 

يشكل موضوع “تجـديد الثقـة”، في أبعـادها المُجتمعية والمؤسساتية، و ارتباطاتها بمسـار تأهيـل تدبيـر الشـأن العـام الوطني، وتحقيق المساواة و العدل و سيادة القانون، أهمية قصوى بالنظر إلى الظرف الدولي الحالي الذي يفرض علينا جميعا أن ننتبه إلى التحديات المعقدة التي تواجهها بلادنا، لأننا في قلب الخطط الجيوستراتيجية لقوى العالم، و لسنا على الهامش في صراع و تجاذبات المصالح الكبرى.

 لذلك، علينا أن نستبق ما هـو قـادم بقـوة من نتائج “انعطافة تاريخية” يشهدها العالم على المستويات السياسية والاجتماعية و الاقتصادية و المالية و العسكرية والجيوستراتيجية و البيئية والديموغرافية والقيمية، بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.

ومن الضروري، الوعي بأنه لا مصلحة في الاعتقاد بإمكانية حـل المشاكل التي يعرفها واقعنا، عـبـر “دفـن الـرأس في الـرمـل”، أو التردد والخوف من تحمل أعباء مواجهة التحديات بروح استباقية واستشرافية.

فليس أفضل من حل مشاكل اليوم، بحكمة وفي هدوء و سكينة، عوض التأخر عن التحرك والمجازفة بأن نرى المشاكل “زادت خماجت”، و الاضطرار آنذاك للتصدي لها بارتباك و تخبط و في جو الصخب.

ومساهمة في تشجيع ديناميكية النقاش العمومي حول موضوع “تحديد الثقة”، أرى أن السبيل يمر عبر استنفـار الوعـي على المستـوى الفردي و المجتمعي، و على المستوى المؤسساتي بالنسبة للهيئات العمومية التي تمثل الدولة، و بالنسبة لهيئات الوساطة السياسية والاجتماعية، من أحزاب سياسية ونقابات.

في شأن تعزيز الوعي و تغيير السلوكات الفردية و الجماعية، فأرى أن ذلك يقتضي :

– مصارحة الذات، الفردية و المجتمعية، بحقيقة العيوب التي ترسخت في ممارساتنا المجتمعية، و الوعي بخطورة استمرار ذلك الوضع.

– الإعتراف بأن هنالك اختلال فج بين السلوكات الفردية والممارسات في المجال الخاص، و بين “القيم” و “الشعارات” المرفوعـة و الأفكار التي نُروج لها في الفضاء العام، في ما يمكن أن نعتبره “سكيزوفرينيا” اجتماعية وثقافية و قيمية، تحتاج إلى أن نتعاطى معها على أنها حالة مرضية تستدعي العلاج و المواكبة.

– السعي إلى إحداث التغيير من داخل الذات الفردية أولا، عبر مسائلة “القناعات” التي نحملها، و المسارعة إلى لجم طغيان الأنا و غـرور الطموحات و الرغبات غير المُنضبطة للقانون ولمنطـق عقـلاني سليـم.

أما في شأن المستوى المؤسساتي، فيتعين على كل الهيئات العمومية الممثلة للدولة، أن تبادر إلى إعطاء المثل اعتبارا لقوتها الرمزية الريادية، وكونها هي من تملك شرعية “سلطة الفعل العمومي و صلاحيات تطبيق القانون”.

 ويتعين من هذا المنطلق، المبادرة إلى :

– إعادة بناء التواصل مع المواطنين على أساس تعـاقـد أخلاقي جـديـد ينطلـق من الالتـزام بتقـديـم الخـدمة العمـومية بالجـودة المفـروضة، في إطار احترام المترفقين وتشجيع القرب منهم و الانفتاح الصادق على اقتراحاتهم وملاحظاتهم.

– تقديم المعطيات و المؤشرات التي تبين و تثبت أن تلك الهيئات تحترم القوانين.

– تطوير الحكامة بما يؤكد سلامة تدبير المال العام، و خلـو تنفيذ المشاريع و الصفقات العمومية من أي فساد ظاهر، أو مستتر في ثنايا “مقتضيات بيروقراطية” يعرف الناس أنها لا تمنع منطق “خالتي في العرس” و “باك صاحبي”، و غير ذلك من سلـوكات بعـض المسؤولين، و بعض “لجان فتح الأظرفة”، نموذجا.

أما بالنسبة للمستوى الأخير المرتبط بهيئات الوساطة السياسية والاجتماعية، من أحزاب ونقـابـات، ومـا فيهـا من “نخب” تسعى، بحسب منطوق القوانين التي تضبط عملها، إلى تأطيـر المواطنات و المواطنين مدنيا و حقوقيا و سياسيا، فعليها مسؤولية أخلاقية شديدة الثقل، و مسؤولية وطنية أقوى و أكبر، تجعلها مدعوة إلى تصحيح صورة العمـل السياسي والنقابي، و تحقيق التصالح مع المواطنين، و أن تنخرط في ديناميكية الإصلاح و الإقلاع الشامل التي دعا إليها عـاهـل البـلاد في خطاب العرش الأخير. و في رأيي، لا يمكن أن يتأتى ذلك إلا عبـر :

– ضبط و ترسيخ قاعدة التداول على المسؤوليات القيادية، في الأحزاب و النقابات، و منع الجمع بين أكثر من مسؤولية انتخابية واحدة في نفس الوقت، و إقرار “مبـدأ التقاعد” من المسؤوليات السياسية و التنظيمية و النقابية في سن معقول يحترم الطبيعة الديمغرافية للمجتمع الذي يعتبر الشباب كتلته الأكبر.

– ترسيم أساسيات الديمقراطية الداخلية المبنية على احترام الاختيار الحر للمنخرطين و المناضلين، و ليس على منطق “صناعة الزعماء” بالكولسة و تجـييـش الأتباع بأساليب البلطجة، وشراء الولاءات والذمم والاصطفافات المصلحية.

– تجـديـد “النخـب” و “الزعامات” و فتح الباب أمام جيل جديد من الأطر لتأخذ فرصتها و تتقدم أمام المغاربة في امتحان عسير عنوانه “استرداد الثقة على أساس تعاقد سياسي و أخلاقي جديد”.

– حل المشكل الأخلاقي الكبير الذي يتجلى في الهوة القائمة بيـن “الواقع النخبوي” لبعض القيادات السياسية والنقابية، الغارقة في “الريع و المنافع”، و بين “تصريحاتها، و حواراتها الإعلامية، و خطاباتها الجماهيرية” المتخمة بالحديث عن “القيم”، و”الشفافية و النزاهة”  و “الدفاع عن مصالح المواطنين”، بشكل “دوخ الناس” لفرط ما فيه من نفاق سياسي وكذب لم يعـد يخفى على أحد من المواطنين.

 و أجزم أن مثل هذه السلوكات اللاأخلاقية هي من الأسباب الرئيسية التي تجعل المواطنين ينفرون و يبتعدون من العمل السياسي و النقابي، و لا يشاركون في قضايا الشأن العام الوطني اعتقادا منهم، بتعميم انفعالي غير صحيح، أن “السياسيين و المنتخبين فاسدون”.

– تجويد مضامين العروض السياسية الحزبية و العروض النقابية، و تحيين المعرفة بالواقع و بتحدياته الحقيقية، و السعي إلى فتح نقاشات عميقة مع المواطنين بحسب كل مجال، و تشخيص انتظاراتهم و إشراكهم في بلورة أجوبة و حلول و بدائل رصينة للقضايا المجتمعية والسياسية، المطروحة على الجميع محليا و جهويا و وطنيا.

وأنا أقترح هنا ما أعتبرها مداخل أو نقط انطلاق إلى كسب رهان تجديد الثقة وتسهيل الإصلاح، أعي جيدا أن الأمر سيحتاج، أولا، إلى وعي و إرادة صادقة للمواطنين، بالنسبة للشق المرتبط بالأفراد و بالمجتمع، كما سيحتاج إلى إرادة حقيقية للفاعلين السياسيين و النقابيين، بالنسبة لهيئات الوساطة السياسية و الاجتماعية.

ولا شك أن الأمر قد يستدعي تجديد ترسانة القوانين لتعزيز الحكامة و فرض تحديث عقلاني لآليات التدبير العمومي، و عصرنة أنظمة الوساطة السياسية والاجتماعية و دمقرطتها، و الانتقال إلى أشكال تدبير عمومي جديد يحترم ذكاء المواطنين و يتشارك معهم لصناعة المستقبل.

و لأن الأمر يحتاج إلى وقت طويل و صدق ومهنية عالية، أصبح من اللازم على كل المعنيين، أفرادا و جماعات ومؤسسات، أن يستنفروا قواهم ليطلقوا بسرعة ديناميكية وعي ثقافي جديد يسير بنا نحو الإصلاح واستعادة المواطنين،  و خصوصا الشباب، للثقة في الذات و في المجتمع و في مؤسسات الدولة، باعتبار ذلك شرطا مستعجلا و أساسيا لتحقيق الإقلاع الشامل الذي نطمح إليه، و الانخراط في تنزيل نموذج تنموي جديد ستتضح ملامحه قريبا، و سيحتاج منا تعبئة وطنية استثنائية لتجاوز العجز المسجل في عدة قطاعات و مجالات، و استثمار الفرص المتاحة في فضاء عالمي معقد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *