عبد السلام رجواني

في مثل هذا اليوم، رحل السي عبد الرحيم، بعد تجربة نضالية مديدة، خبر فيها الرجل ورفاقه في الحركة الوطنية، ثم في حزب الاستقلال والاتحاد الوطني، ثم في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، العمل السياسي في كل أبعاده، الفكرية والنضالية والتدبيرية، ومن كل المواقع القاعدية والقيادية، في الحكومة كما في المعارضة؛ ولكنْ وفق رؤية سياسية وطنية وتقدمية واضحة، عمادها السمو الأخلاقي والوفاء للمبدأ والدود عن السيادة الشعبية ووحدة الوطن وعزة المغرب.

هي خصال ارتقت بالسي عبد الرحيم إلى مصاف القيادات التاريخية والزعامات الملهمة التي تجاوزت دائرة تأثيرها حياة الحزب وحدود الوطن، فنال بذلك صفة رجل الدولة ونال، قبل ذلك وبعده، حب الشعب واحترام الغير، بمن فيهم الخصوم السياسيون.

ولا غرابة أن اسمه وسيرته ومواقفه التاريخية ما زالت تسكن ذاكرة من عايشه من المغاربة. أجل! كان عبد الرحيم ولا يزال علما رفيعا في نضال شعبنا من أجل الاستقلال ومن أجل مغرب الحداثة والديمقراطية والكرامة الإنسانية. وإنْ كان المجال لا يتسع لاستحضار كل إسهامات سي عبد الرحيم في إثراء الحياة السياسية الوطنية عامة وفي بلورة الاختيار الديمقراطي الشعبي وتجسيده على مستوى الممارسة، يكفي الوقوف عند ثلاثة سمات أساسية:

1) الوطنية الصادقة المتمثلة في اعتبار استقلال الوطن ووحدته واستقراره اختيارا ثابتا غير قابل للمساومة مهما كان الخلاف مع الحاكمين حول السياسة الداخلية للدولة، من منطلق أن الوطن للجميع، وبدون وطن مستقل وموحد لا حديث عن الديمقراطية والتنمية والتغيير. وقد مارس عبد الرحيم هذا التوجه الوطني الأصيل دون حسابات وبجرأة عالية، سواء لما عمل، من داخل الحكومة الوطنية برئاسة عبد الله إبراهيم، ومن موقع وزارة الاقتصاد، على التأسيس لاقتصاد وطني متحرر من الهيمنة الخارجية ويسعى إلى بناء نموذج تنموي يلبّي انتظارات الشعب المغربي، أو من خلال الانخراط اللامشروط في الترافع عن الوحدة الترابية في لحظة تاريخية فارقة في المحافل الدولية رغم الشرط السياسي الداخلي الصعب، أو حينما عارض بقوة وشجاعة نادرة قبول الدولة المغربية بمبدأ الاستفتاء بخصوص الصحراء المغربية؛

2) الايمان العميق بالديمقراطية: لم تكن الحركة الاتحادية في بدايتها منسجمة من حيث جذورها التاريخية والاجتماعية وتوجّهاتها السياسية، فكرا وممارسة. نظرا إلى مكوناته التاسيسية، كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بوتقة اجتمعت فيها كل القوى التقدمية المعارضة للدولة وسياستها اللاشعبية. وهكذا ضمّ الاتحاد الوطني اتجاها “ثوريا” بلانكيا، واتجاها نقابيا “خبزيا” صرفا، واتجاها اشتراكيا -ديمقراطيا ذا أطياف وتلوينات يسارية متعددة تمخضت عنها تيارات متعددة في مراحل لا حقة (23 مارس، الاختيار الثوري، الطليعة). ضمن هذا الخضم كان السي عبد الرحيم أقوى المدافعين عن الاختيار الديمقراطي، إلى جانب المهدي وعمر وسي محمد اليازغي والمفكر محمد عابد الجابري وغيرهم من الأطر الاتحادية الشابة والمثقفة آنذاك، أمثال عبد الواحد الراضي ومحمد جسوس وفتح الله ولعلو ومحمد الخصاصي وآخرين.

كان عبد الرحيم يؤكد في كل خطاباته أن الديمقراطية غاية ووسيلة وأنها لن تتحقق سوى من خلال ممارستها في المؤسسات وفي المجتمع من قبل الشعب، الذي إن كان الحزب طليعته، فإنه ليس وكيلا له في معركة البناء الديمقراطي؛ وبالتالي فإنها معركة صعبة وطويلة، ليس فقط بسبب تعنّت الحاكمين وطبيعة النظام السياسي ومقاومة القوى الرجعية، وإنما كذلك بسبب التأخر التاريخي للبنيات الاجتماعية والثقافية؛

3) جدلية النظرية والممارسة: لم يكن عبد الرحيم يطلق الكلام على عوانه ولم يهو، أبدا، الجملة الثورية والمزايدة السياسوية، سواء داخل الحزب أم في مواجعة مكونات الحقل السياسي. كان حريصا على ربط الخطاب بالممارسة والنظر بالعمل. ومن أقوى تجليات هذه الجدلية أن عبد الرحيم، ومعه قيادة الحزب، عمل على ترجمة الاختيار الديمقراطي الذي أقرّه المؤتمر الاستثنائي سنة 1975، إلى إجراءات عملية ملموسة، من خلال إحداث أدوات الأجرأة والتنفيذ (تأسيس “ك. د. ش”. إعادة الحياة لـ”أ و ط م”، تفعيل الاتحادات المهنية وتأسيس أخرى، المؤسسة الاشتراكية للعمل الجماعي).

تستمد شخصية سي عبد الرحيم، في نظري المتواضع، تميزها وقوتها من شيئين، أولهما الإنصات والتشاور مع مستشاريه ورفاقه، وثانيهما الصدق في القول والعمل والتواضع. ألم يقل في وصيته الأخيرة قبل وفاته رحمه الله “ما أسدينا من أجل الوطن ليس هو الكمال، ولكن الذي أسدينا خرج من صميم الفؤاد طاهرا، نقيا”…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *