عبد الرزاق بوتمزار

ح. 77

نقيقُ التّافهين..

 

كلّ ما جرى معي في مُسابَقة جامعة ناصر وفي نهاية السّنة الثانية من الإجازة التطبيقية في علوم وتقنيات الكتاب في جامعة محمد الخامس وما عرفه مشواري الأدبي، المُتعثر، من محطات حبلى بالخيبات والانتكاسات جعل مستقبل أمنيتي أن أصير كاتبا -كما حلمتُ بذلك دائما- في كفّ عفريت! أنْ (تحاول أن) تصير كاتبا في بلد كالمغرب، أنت القادم من قاع المجتمع، المُتحدر من طبقاته الاجتماعية الفقيرة، معناه أن تخوض حرْبا ضروسا، بكلّ ما تحمل الكلمة من معان ودلالات.. حربا ضدّ جوقة من الفاشلين، ذوي أسماءَ صقيلة كرّسوها بطرقهم الملتوية ثم ورّثوها، بعد ذلك، لسُلالاتهم، من خلال اتّحاداتهم وجمعياتهم المُتسلّقة المُهرولة، التي أحسنوا -على امتداد عقود- تسييجَها وحمايتها ضدّ جميع مُحاوَلات الاختراق التي يقوم بها بعض “أوباش الأدب”، من شاكلتي، والذين تُعوزهم “المُؤهلات” المفروضُ توفّرُها في من أراد الحصول على مُبارَكة الأسماء المعروفة، وغم أنّ غالبيتها العظمى ظلت، دوما، بلا أيّ خلق أو إبداع حقيقيّ تُبرّر به مكانتَها الرّياديةَ المزعومة في عالَم الكلمة، الذي تَناسَل على أعتابه -مع الأسف الشديد- المُهرولون والمتسلّقون ولْحّاسو الكاپّة!..

نكراتٌ ووصوليون ومُخبرون لا يربطهم بعالَم الخلق والإبداع إلا ما كان لهم من أسماءَ عائلية ملساءَ ورثوها من زواحفَ وديناصورات أحكمتْ قبضتَها على مجال الإبداع وشدّدت رقابتها على الأقلام الحُرّة المُبدعة؛ أو مِن علاقات مشبوهة يطبعها التزلّف وتقبيل الأيادي، وحتى الأحذية، في الكواليس المظلمة.. آخَرون لا يجدون أدنى حرَج في قرصنة إبداعات الآخَرين، المُهمَّشين ونسبها، افتراءً، إلى ما “أبدعت” أيديهم؛ وفوق هذا يجدون مَن يتبنّى أقلامهم “المعطاء” ويُغدق عليهم الأموال والأسفار والتكريمات. يرومون بذلك تجفيفَ معاني العُمق والاستفزاز التي يسيل بها حبرُ الأقلام الحقيقية، المسمومُ بلسعات التجريب والتّجديد والفضح والتّنديد؛ أشدّ ما تخشى تلك الزّواحف والدّيناصورات.

في هؤلاء وأمثالهم من مُهروِلي الأدب، المُفترَى عليه في أوطاننا “العربية”، كتبتُ، في تلك التسعينيات البعيدة، نصا بعنوان “أبجديات التيه”، عرف وقتها طريقَه إلى النّشر في “المستقلّ”، التي فتحت بابا للحلم في وجه العديدين من أمثالي؛ جاء فيه:

“لعيون ذكّرتْني بغابر الأيامْ؛ نسجتُ عنواناً لجميل الأحلامِ وتأبَّطتُ حُزني والأسى وبدأتُ رحلةَ التّيه في عالمٍ أثخنني بالجراح واستكثرَ عليَّ أن أكون شاعرَا.. سرتُ مُتعثرا في ظلمة السّراديبْ فعسكرتْ في دواخلي مَخاوفُ الأزمنة وعشَّشتْ على جُدران رُوحي غربانٌ بوُجوه الخطايا..

كتمتُ عن الكونِ أسرارَ عزلتي وانقطاعي وبُحتُ لدمعِ الشّمعة بتفاصيلِ نكبتي والحيرة.. أعلنتُ حرب الصّمت ضدّ نقيق التّافهينَ وشرعتُ في تعلّمِ أولى حِكَم الوُجودْ.. كان الدّهر يمّاً والأفكارُ مَركباً للإبحار نحو جزيرة الكمالْ.. وهذا اللّيلْ، عشقُ العُظماء والحيارى، كان مُنقذِي من جُنون البشر في الأضواءْ.. أفردُ أوراقي وأؤطر وحدتي برُباعي البؤس والألمْ، التّفاهة والنّدمْ، لأرسُمَها لوحةً بلا أصباغ، تُجسّد تيهَ إنسانٍ وعبثيةَ وُجود..

فيا أيها الليلُ السّاكنُ فينا أضئْ شعابَ الأفئدة وأسدلْ ستائرَك على شوارع مدينةٍ لا يَروقُني عرْيُها النهاريُّ فأسرقُ، تحت جُنْحك، لحظاتٍأهيمُ فيها على وجهي، باحثاً عن معنى بديلٍ للحياة”!
(…)

رغم كلّ مُحاوَلات التدجين والاحتواء والإقصاء والتيئيس، ظللتُ، وظلّ كثيرون غيري، على النهج نفسه: رفض المُساوَمات والحصار والإقصاء، إيماناً بأنّ مَن سار على الدّرب، حتماً، وصَلْ.. لكنْ كم كان ثمنُ هذا الوصول فيك باهظا يا وطنَ مَدّاحي الأعتاب، الواطئة على الخصوص!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *