إعداد: إلياس زهدي

ح. 29

العندليب ووردة الحب
أوسكار وايلد (1854 -1900)

هتف الطالب، وهو يكاد يطير فرَحا:

-قالت إنها ستراقصني إذا حملتُ لها ورودا حمراء.. لكنْ في جميع الحدائق لا توجد وردة حمراء واحدة!
هاف الطالب. ومن عشّه، في شجرة البلّوط، سمعه العندليب وهو يتلصص عليه عبر أوراق الشجرة وأخذ يفكر. ردّد الطالب وقد اغرورقت عيناه الجميلتان بالدموع:
-لا وردة حمراء واحدة في حديقتي كلها! آه، يا للتفاهات التي تتوقف عليها السعادة! قرأتُ جميع ما كتب الحكماء، كل أسرار الفلسفة معروفة لديَّ. ورغم ذلك فإن انعدام وردة حمراء يصيّر حياتي غير محتملة.

قال العندليب:
-ها هو، أخيرا، عاشق مخلص! خلال ليال كثيرة وكثيرة غنيت معه ورغم هذا لا أعرفه، خلال ليال كثيرة وكثيرة غنيت قصته للنجوم، والآن أرى شعره معتما مثل زهرة الزعفران وشفتيه حمراوين مثل وردة رغباته. غير أن العشق وضع على وجهه امتقاع العاج والألم غضّن جبينه.
همس الطالب:
-سيقيم الأمير، غدا ليلا، حفلة راقصة، وستكون محبوبتي بين المدعوين. فإذا حملت إليها وردة حمراء ستراقصني حتى انبلاج الصبح! لو حملت إليها وردة حمراء لأخذتها بين ذراعَي ولأراحت رأسها على كتفي ولضغطتُ على يدها بيدي. لكنْ لا توجد وردة حمراء واحدة في حديقتي! وهكذا سأغدو متفردا، وهي ستمر بي من دون إن تلقي إلي نظرة. ستمر بي.. وقلبي سيتشظى.
قال العندليب:
-ها هو عاشق مخلص. وفيما أنا أغني هو يعاني، وما هو لي فرَح هو له ألم. فالحب، في الواقع شيء رائع. هو أغلى من الزمرّد وأندر من أحجار الأوبال البرًاقة الناعمة. حتى باللآلئ لا نستطيع شراءه، وهو ليس معروضا للبيع في السوق، ليس بالوسع ابتياعه من التجار,لا يمكن وزنه في الموازين بوزن الذهب.
قال الطالب:
-سيجلس الموسيقيون على المنصة وتعزف الآلات الموسيقية الوترية، وحبيبتي سترقص على صوت المعزف والقيثارة. سترقص خفيفة جدا وسريعة جدا، بحيث أن قدميها لا تكادان تلمسان الأرض. وسيتحلق حولها رجال البلاط، بأثوابهم ذات الأبهة. لكنها لن ترقص معي لأني لا أحوز وردة حمراء لأقدّمها لها.

وبينما ألقى بنفسه على العشب ووجهه بين يديه وشرع في البكاء، سألت عظاءة صغيرة، وهي تمر به راكضةً، وذيلها الصغير إلى الهواء:
-لمَ يبكي؟
وقالت الفراشة التي تطير مطاردة شعاعَ شمس “لماذا؟”..
وهمست أقحوانة جميلة لجارتها “لماذا؟”.. قال العندليب:
-يبكي من أجل وردة حمراء.
هتفت العظاءة والفراشة والاقحوانة:
-من اجل وردة حمراء؟! يا له من أمر مضحك. ولم تحبس العظاءة الصغيرة، التي كانت شديدة التهكم، قهقهاتها. لكن العندليب كان يتفهم سر ألم الطالب. فبقي صامتا على شجرة البلوط، مفكرا في لغز الحب. وفجأة، فتح جناحيه، بلونهما القمحيّ، وحلق في الفضاء.

ومثل ظلّ، مر عبر طريق محفوف بأشجار الحور. ومثل ظل، طار فوق الحديقة. في وسط العشب، كانت تنمو غرسة ورد مدهشة. وحالما لمحها طار إليها العندليب وحط على غصن وطلب:
-أعطيني وردة حمراء وسأغني لك أجمل أغنياتي.
لكنّ نبتة الورد حرّكت رأسها قائلة:
-ورودي بيضاء، ناصعة البياض، مثل زبد البحر أكثر بياضا من ثلج الجبل. اِبحث عن أختي، التي تزهر لصق الساعة الشمسية القديمة، فربما لديها الذي ترغب فيه.

طار العندليب إلى غرسة الورد التي كانت تنمو لصق الساعة الشمسية القديمة:
-أعطيني وردة حمراء وسأغنّي لك أجمل أغنياتي.
لكن النبتة حرّكت رأسها وردت:
-ورودي صفراء، صفراء مثل الشعر الذهبي للحبوب التي ترتاح في جذوع العنبر، أكثر اصفرارا من تويجات النبات التي تزهر في الحقول قبل أن يأتي الفلاح ويقطفها.. لكن اِبحث عن أختي التي تزهر تحت نافذة الطالب فربما لديها ما ترغب فيه.

وهكذا طار العندليب إلى غرسة الورد التي كانت تزهر تحت نافذة الطالب. وطلب:
-أعطيني وردة حمراء وسأغني لك أجمل اغنياتي. لكن غرسة الورد حرّكت رأسها وأجابت:
-ورودي حمراء، حمراء مثل قوائم الحمام، أكثر احمرارا من عناقيد المرجان التي تتحرك في أعماق المحيط. لكن قسوة الشتاء تسللت إلى عروقي وانتقل الجليد إلى براعمي وهشّمت العاصفة أغصاني.. لذلك لن أعطي ورودا هذه السنة!

تضرع العندليب:
-وردة حمراء واحدة هي كل ما أريد، وردة حمراء فقط، أوليست لديك وسيلة للحصول عليها؟
أجابت غرسة الورد:
-هناك وسيلة واحدة، لكنها مرعبة جدا، بحيث إني لا أجرؤ حتى على كشفها لك.
ألحّ العندليب:
-أخبريني، فلست خائفا!
قالت غرسة الورد:
-إذا أردت وردة حمراء يجب أن تصنعها بغنائك حين يضيء القمر وتغمسها بدم قلبك.. يجب عليك أن تشدو لي بصدر تخترقه شوكة.. وخلال الليل بطواله يجب ان تغنّي لي والشوكةُ يجب أن تخترق القلب، ينبغي أن يجري دم حياتك في عروقي فيغدو لي.
هتف العندليب:
-لكن الموت ثمنٌ مرتفع لوردة حمراء.. الحياة غالية وإنه لشيء جميل أن تبقى في الدغل متأملا الشمس في مركبتها الذهبية والقمر في مركبته اللؤلؤية.. كم هو ناعم هو شذا الفجر وناعمة هي أزهار الجرس التي تتوارى في الوادي وعذبٌ زهر الخلنج، الذي تجعله الرياح يرتجف على الرابية.
-لكنّ الحب أفضل من الحياة!.. وما قيمة قلب عصفور مقارنة بقلب رجل؟

وإذ قال ذلك، فتح جناحيه وحلّق في الفضاء. ومثل ظل مر فوق الحديقة ومثل ظل مر بالطريق المحفوف بأشجار الحور. وكان الطالب في المكان ذاته حيث تركه، مضطجعا على العشب والدموع مازالت غير جافة في عينيه الجميلتين. هتف العندليب:
أبشرْ يا هذا.. لتفرح. فستكون لديك وردتك الحمراء، سأخلقها بإنشادي عندما يلمع القمر وسأغمسها بدم قلبي.. والمقابل الوحيد الذي أطلب منك أن تكون عاشقا وفيا، إذ إن الحب أكثر حكمة من الفلسفة، مهما كانت هذه تعرف كثيرا، وهو أقوى من السلطان، مهما كان هذا قادرا جدا. فلديه جناحان بلون النار، وبلون النار هو جسده. وثمة عذوبة مثل العسل في شفتيه ونفَسُه يذكّر بأزكى البخور.

رفع الطالب رأسه وأصغى، لكنه لم يتمكن من فهم شيء. لم يكن يعرف أمورا أخرى عدا الكتابات في الكتب. لكنّ شجرة البلوط فهمت وباتت حزينة، لأنها كانت تحبّ العندليب كثيرا، وقد بنى عشه بين ااغصانها. همست:
-غنّ لي أغنية أخيرة، وفسأصير وحيدة حينما ترحل!

وغنّى العندليب لشجرة البلوط. وذكّر صوته بالماء الذي يفور من جرّة فضية. وعندما أنهى غناءه، سحب الطالب الذي كان قد وقف على قدميه، من جيبه دفتر ملاحظات وقلماً. وقال لنفسه، وهو يبتعد عن الطريق المحفوف بشجر الحور:
-كم من تأديب في الغناء! هذا لا يمكن دحضه، لكنْ هل يشعر حقيقة؟ أخشى ألا يكون الأمر كذلك! في الحقيقة، إنه يشبه أغلبية الفنانين، الشكل فقط، ولا أي إخلاص! فهو لن يضحّي بنفسه من أجل أحد ما ولا يفكر إلا في الموسيقى. والجميع يعرفون كيف أن الفنانين أنانيون. لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأنّ في صوته نغمات سامية. والمؤسف أنها لا تعني شيئا أو أنه ليس منها أية فائدة! ومضى إلى حجرته واضطجع على السرير الصغير وأخذ يفكر في حبه. وبعد وقت قصير، خلد إلى النوم.

حين لمع القمر في السماء، طار العندليب إلى نبتة الورد واخترقتْ صدره شوكة. وطوال الليل غنى، والشوكة منغرزة في صدره والقمر بارد وبلّوري يميل ليُصغى. طوال الليل بأكمله غنّى، والشوكة في كل مرة تنسلّ أكثر عمقا في صدره ودم حياته يتركه قطرةً، قطرة. غنّى، في البداية، عن مولد الحب في قلبْي صبيَين. وفي الغصن الأعلى من غرسة الورد تفتحت ورقة زهر تلو ورقة زهر.. وردة فاتنة، فيما غناء العندليب متواصل. في البدء، كانت الوردة شاحبة مثل ضباب فوق النهر، شاحبة مثل آثار الصباح وشاحبة مثل أجنحة الفجر. شبيهةً بصورة وردة في مرآة فضية، شبيهةً بانعكاس نبع ماء كانت الوردة التي تفتّحت في أعلى غصن من غرسة الورد. لكن نبتة الورد صرخت بالعندليب بأن يضغط بصدره أكثر فأكثر على الشّوكة. هتفت:
-اضغط أكثر أيها العندليب الصغير وإلا طلع النهار قبل أن تكون الوردة قد اكتملت. أخذ العندليب يضغط أكثر على الأشواك وغدا غناؤه أقوى، لأنه صار الآن يغني مولد العشق في قلب الرجل والمرأة. واجتاح لون ورديّ خفيف وُريقات الوردة، مثل حمرة خجل عريس حينما يقبّل العروس في شفتيها. لكن الشوكة لم تكن قد بلغت بعد قلبه. وهكذا استمر قلب الوردة أبيض، إذ أن دم قلب عندليب وحده يستطيع أن يحيل قلب وردة أحمر. وصرخت غرسة الورد بالعندليب أن يضغط بصدره أكثر فأكثر على الشوكة. صاحت:
-اضغط أكثر أيها العندليب الصغير وإلا طلع النهار قبل أن تكون الوردة قد اكتملت.

واستجمع العندليب قواه وضغط صدره أكثر على الشوكة، التي بلغت القلب. ومزّقه تشنج فظيع من الألم. ومريرا كان الألم. وأخذ غناؤه يصير أكثر وحشية، لأنه كان يغني الحب الذي يتكامل بالموت، الحب الذي لا يموت حتى ولو في القبر.

ثم صارت الوردة الفاتنة قرمزية، مثل وردة السماء المشرقة. قرمزيا كان تلوين الوُريقات وقرمزيا مثل الياقوت كان قلب الوردة. لكنّ صوت العندليب قد وهن والجناحان الصغيران بدآ في الانتفاض والضّباب غطى عينيه. وضعيفا فأضعفَ صار غناؤه، قد أحس بشيء ما يخنقه. آنئذ، غنى لحنه الأخير. وسمعه القمر الأبيض فنسي الصّبح ولبث في السماء. وسمعته الوردة الحمراء وهي مرتجفة من الانفعال فتفتحت إزاء نسيم الصباح البارد. وحمله الصدى إلى كهفه الأرجواني في الجبال. فاستيقظ الرعاة المحزمون بأحلامهم. واضطرب بين قصب النهر، الذي حمل رسالتها إلى البحر.
صرخت غرسة الورد:
-انظر! انظر، الوردة مكتملة!
لكن العندليب لم يجب. سقط ميتا على العشب، مع الشوكة المغروسة في القلب.

وعند منتصف النهار، ظهر الطالب في النافذة وتطلع إلى الحديقة وهتف “يا للسعادة! وردة حمراء! ما رأيت قط وردة شبيهة لها في حياتي كلها! كم هي جميلة، أنا على يقين من أن لها اسما لاتينيا طويلا!

ثم انحنى، مقوسا ظهره ، ليقطفها. وبعدما اعتمر قبعته، مضى راكضا إلى منزل الأستاذ والوردة في يده.

كانت ابنة المدرس جالسة، عند مدخل البيت، تلفّ خيوطا حريرية على بكرة، وكان كلبها الصغير جالسا عند قدميها. قال الفتى:
-قلت إنك ستراقصينني إذا قدّمت لك وردة حمراء.. هي ذي وردة أشدّ احمرارا من أية وردة اخرى في الدنيا.. ستضعينها هذه الليلة بالقرب من قلبك وفي ما نحن نرقص ستعرفين مدى حبّي لك.

قطّبت الفتاة حاجبيها. وقالت:
-أظن أنها لا تناسب فستاني. كما أن ابن شقيق حاجب الملك قد بعث إلي ببعض الجواهر الحقيقية. وكل الناس يعرفون أن الجواهر الحقيقية أثمنُ من الورود.
قال الفتى بغضب:
-أقسم إنك ناكرة للجميل!
وقذف بالوردة في الطريق فسحقتها عجلات عربة.
قالت الفتاة:
-ناكرة للجميل؟ دعني إذن أقول لك شيئا: أننت شديد الوقاحة حقا. وبعد كل شيء، من أنت؟ إنك مُجرّد طالب. لا أظن أنك تمتلك مشبكا فضّيا لحذائك، كما يفعل ابن شقيق حاجب الملك!
وقامت من كرسيها ودلفت إلى البيت.

قال الفتى لنفسه، وهو يبتعد:
-ما أسخف الحُب! إنه ليس مفيدا بمقدار نصف فائدة المنطق، فهو لا يبرهن على شيء. كما أنه يتنبأ بما لن يحدث أبدا ويجعل المرء يصدّق أشياء كاذبة. في الواقع، الحب ليس بالشيء العملي. ونحن في عصر لا يقيم وزنا إلا لما هو عملي.. سأعود إلى الفلسفة وسأدرُس فلسفة ما وراء الطبيعة.

وعاد إلى حجرته. تناول كتابا ضخما غطاه الغبار وشرع يقرأ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *