إذا ما استمرت موجة التطهير الحالية التي تشمل رؤساء الجماعات والجهات والبرلمانيين والمستشارين الفاسدين بشكل طبيعي دون السقوط في الانتقائية أو “منطق الحملة” المحكوم بالظرفية، وأصبحت تمرينا عاديا يطبق البند الدستوري الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة فإننا سنكون بجد قد وضعنا أقدامنا في المسار الديمقراطي الحقيقي.

هذه الموجة التي تكتسح الجماعات والبرلمان جعلت جميع من يتعاطون السياسة يضعون أيديهم فوق قلوبهم خوفا من أن تطولهم سياط المساءلة، وهذا بالنهاية هو الجو المطلوب في كل ديمقراطية تحترم نفسها، أن يكون كل من يمارس السياسة أو يسير الشأن العام ويتحكم في صرف أموال دافعي الضرائب خائفا متوجسا على مدار اليوم والليلة من المساءلة والمتابعة القضائية ومن السجن.

لقد وصلنا في المغرب، بسبب التساهل والتغاضي القضائي عن لصوص المال العام، إلى درجة أن القاعدة أصبحت هي “كول ما جاك”، بينما العفاف والكفاف والجدية في العمل أصبحت مرادفا للغباء وقلة الحيلة و”الغشمية“.

وهكذا أصبحت السياسة والانتخابات هي المصعد الذي يركبه كل من يريد أن يتسلل طبقيا وأن يغادر القاع حيث الحفاة العراة من أشباهه إلى الطوابق العليا حيث “الألبة“.

فأصبح الفوز في الانتخابات أعز ما يطلب وصار بمستطاع كل أمي معدم أن يحشد الأصوات الكافية لكي يضمن مقعده في مجلس جماعي أو في الجهة أو البرلمان ويتحول في بضع سنوات لواحد من الأثرياء الجدد بفضل عائدات الرخص والإتاوات التي يتحصل عليها من الخدمات المؤدى عنها التي يقدمها للمواطنين والمستثمرين.

وبسبب هذا الفساد المستشري فر المستثمرون الجادون وجاء الانتهازيون المتواطئون مع الفساد ضد مصالح المواطنين، وهذا طبيعي، فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة.

وبدأت بسبب ذلك شرعية الدولة تتآكل في وقت استمرت فيه ثروات هؤلاء الفاسدين في التضخم.

وهكذا في ظرف عشرين سنة الأخيرة أصبحت لدينا طبقة من أغنياء السياسة والانتخابات استطاعوا نسج علاقات مافيوزية مع شبكة معقدة من المسؤولين المحليين والمركزيين مكنتهم الحماية التي وفرها لهم هؤلاء من تحصيل ثروات قارونية سجلوها بأسماء زوجاتهم وأبنائهم وأحيانا في أسماء خدمهم وسائقيهم مقابل اعترافات بدين وشيكات موقعة على بياض.

هؤلاء هم أغلب من يتحكم في المشهد الحزبي داخل المدن والقرى والجهات، وهم من القوة والسطوة المالية ما يجعلهم قادرين على إفساد كل مشاريع التنمية المحلية وتحويل ميزانياتها إلى حساباتهم التي يعرف الشيطان وحده امتداداتها.

اليوم، مع هذه الموجة من الاستدعاءات والمحاكمات وأحكام السجن التي تنطقها المحاكم ضد رؤساء جماعات كانوا إلى حدود الأمس يتصرفون كملوك متوجين في مدنهم ومناطق نفوذهم التي أصبحوا يعتبرون أراضيها ملكا لسلالتهم، هناك جو من الرعب يسود بين أوساط هذه الطبقة من المسؤولين، ويكفي أن يدخل الواحد البرلمان لكي يرى كيف اصفرت وابيضت وجوه أغلب البرلمانيين ممن يسيرون الجماعات والجهات، وكيف يجلسون في مقاعدهم وكأن على رؤوسهم الطير.

ما يحدث ستكون له تداعيات إيجابية على الحقل السياسي وعلى الانتخابات عموما، لأن قاعدة دخول السياسة من أجل الاغتناء أصبحت غير صالحة، بل خطيرة، لأن دخول السياسة سيقود صاحبه لمقصلة المحاسبة. وهذا ما كنا بحاجة ماسة إليه في المغرب، أن تتوقف السياسة عن كونها عملا مدرا للدخل يجتذب العاطلين والفاشلين وأن يفهم الناس أن السياسة ليست مهنة بل مسؤولية، ومن يريد راتبا قارا وتقاعدا مريحا فما عليه سوى أن يبحث عن عمل آخر غير احتراف السياسة. لأن بنكيران وبنعبد الله وأضرابهما ليسوا نماذج صالحة للاحتذاء بها بهذا الشأن، لأنهم فشلوا خارج ريع السياسة في أن يعيشوا بعرق جبينهم مثل بقية المغاربة.

وهذا الوضع ستنتج عنه إعادة السياسة لمسارها الصحيح، فعندما سيغادر الانتخابات اللصوص والأميون والانتهازيون والعاطلون الباحثون عن عمل سيأتي إليها الأطر والأشخاص الوطنيون والشباب الطامح لخدمة مدينته وبلده، وهنا ستبدأ السياسة في إفراز نخب جديدة وضخ دماء نظيفة غير ملوثة بفيروسات الكائنات الانتخابية الضارة.

على امتداد حلقات مقبلة من هذا العمود سنقدم نماذج من هذه الكائنات الانتخابية التي كانت “ما تكساب ما تعلام” ولا تملك “عشا ليلة”، فإذا بها بفضل كراسي المسؤولية الجماعية والبرلمانية تحولت إلى عائلات ذات سلطة ونفوذ ووجاهة.

سنكتشف كيف تحول “كورتيي” ممزق الحذاء إلى ملياردير يملك مئات الهكتارات من الأراضي السلالية بالغرب، وكيف تحول “دراز ديال المطارب” ومنشط في “الهديات” بالمقص إلى مالك لأكبر مقالع الرمال بعبدة، وكيف تحول موزع تذاكر في الحافلات بفاس في ظرف خمس سنوات إلى صاحب شركات تدر عليه المليارات، وكيف تحول “شيفور” بسيط في شركة إسبانية إلى خليفة بقيادة العيون ثم إلى أكبر تاجر رمال في الصحراء حول حبات الرمل إلى ذهب مطمور في خزائن ينوء بحملها أولو القوة.

وهي مساهمة بسيطة منا في هذا الجهد القضائي الجماعي الذي يطمح لتنظيف السياسة وتحويلها من حظيرة تعيث فيها الخنازير فسادا إلى حقل تزهر فيه ورود الأمل.

رشيد نيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *