عادل الزبيري

استعملت، قبل خمس سنوات، على أقل تقدير زمني، مصطلح “الكهربائيين” لتوصيف المنتسبين الجدد إلى مهنة الصحافةدون حاجة إلى المرور عبر وزارة الاتصال، للحصول على بطاقة الصحافة، ومن دون المرور عبر أي مسار تكويني في الإعلام أو في أي مجال معرفي آخر، يساعد دارسه على محاربة الأمية الجامعية.

تجاوزت الصحافة في المغرب مرحلة كانت فيها مشاعا مفتوحا أمام جميع الرياح. لم تعد الصحافة مهنة من لا مهنة له، ولكنّ الصحافة تحولت إلى شيء هجين، يشبه مسخا حقيقيا، أو رهينة بيد من يصنع الفرجة بطريقة الحْلقة.

فمع التطور التكنولوجي المتسارع، أمسى حمل الكاميرا الصغيرة أو الهاتف المحمول يجعل كل مواطن يصور مقاطع فيديو صَحافيا، فظهر أشخاص يحضرون ندوات، يطرحون سؤالا في ندوة صحافية تحت اسم “صحافي فيسبوكي”.. شخصيا، عشت عشرات المرات هذه الحالة.

ويتحول، بسرعة غير مسبوقة، المصور من حمل كاميرا لتصوير الأعراس، أي “لقايجي” بالتعبير العامي المغربي، إلى مصور في موقع إخباري على الإنترنت، إلى صَحافي مهنيّ، يطرح أسئلة فيها كل شيء، إلا ركن السؤال الصحافي المهني، من عائلة تتكون من خمس من “W”، ماذا تعني هذه العلامة؟ أظن أنه سيفهمها دارسو الإعلام ويعرفها أيضا المهنيون، الذين استكملوا شروط الانتساب القانوني لمهنة صاحبة الجلالة.

فما الذي تعنيه الصحافة في مغرب اليوم؟

يحمل مصور تلفزيوني كاميرا مع عصا، يجوب شارع محمد الخامس، في العاصمة المغربية الرباط، يحمل لوغو على ميكروفون، يسأل الناس عن كل شيء وعن لا شيء.. يبحث عن كل شيء أو أي شيء، يمكن أن يصنع له الـ”BUZZ”، أي “البووووز”، أي أن يخلق الفرجة الشعبية الجماهيرية.

حملت مواقع التواصل الاجتماعي إلى الصحافة أسوأ الأشياء التي دمّرت مهنة كانت دائما نبيلة، يتنافس الفنان الشعبي مع الموقع الإخباري على الإنترنت، عفوا الكهربائي، للظهور ضمن الكبار في “التراند”؛ أي الأكثر تداولا في يوتوب مثلا. فتحول موقع يوتوب، في الزمن المغربي الرديء للصحافة، إلى أهم رئيس تحرير يعرف تراتبية المواد وأهميتها.

والوصفة الصحافية المغربية بسيطة: تسجيل تصريح تلفزيون،ي قصير أو طويل، لا يهم حجم اللقطة، لا يهم إذا حمل المستجوب البوق، مع إضافة لقطات لتسكير الإيقاع.

انهار سؤال المضمون في الإعلام المغربي وانهار مفهوم “الجمهور يريد هذا” وظهر، مع مواقع التواصل الاجتماعي، جيل جديد من “المؤثرين” كما يسمون، ينشرون الضحالة والتفاهة، يروّجون للسطحي ويهللون للفارغ الأجوف.

فمن تتبع الفنانات المبدعات، في حلّهن وترحالهن، وانتظار أي صورة جديدة للممثل الفلاني، وترقب أي مباشر من مدير صفحة فيسبوك لنجم الأغنية الشعبية، وصولا إلى تغييب ممنهَج لكل خبر يهم الناس في حياتهم، وانتهاءً بترويج معلومات خاطئة، دون تحمّل عناء التصحيح ولا حذف الخبر الخاطئ.

وتتوالى الظواهر السلبية على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى مواقع إخبارية كهربائية ويرتفع الاهتمام بالأخبار التي ترتبط غالبا بالجريمة وبالشرف وبالغرائبيّ وبالغيبيات؛ لا يسأل العامل في موقع عن الشكل والمضمون، يهرول لبث المادة، في انتظار انفجار أرقام المشاهدة.

تظهر بسرعة وتختفي، في زمن “البوووووز” المغربي، وجوه ووجوه، فقواعد القرب والبعد الصحافي كفر بها الكهربائيون، أما الهرم المقلوب، فهو رجس من عمل شيطان الصحافة، أما اللغة فهي آخر الاهتمام؛ التوجه العام هو العامية، أي الدارجة المغربية.

نجح ما يسمى “الصحافة الإلكترونية”، في مدرستها المغربية، في توجيه المدفعية الثقيلة لضرب كل شيء، لتوجيه لكمة قاضية لما تبقى من بطارية القيم المغربية، وفي نسف كل أسس نماذج النجاح، وفي تقديم لافظ للعيب كلاما بطلا، وفي اهتمام زائد بعرس ابنة فنان شعبي، وإلى مسلسل تركي منقول إلى العامية المغربية، يقترب من إكمال عقد كامل من البث، ولا يزال العاشق الولهان لم يجد حلا لمشكلات حبيبته.

هل وصلنا فعلا إلى القاع؟ أم أن السقوط الحر لا يزال مستمرا؟ أم أن قرار القاع المغربي لم يظهر بعد؟

عندما تتكاثر المواقع الكهربائية، بدون تقديم أي قيمة مضافة لمهنة اسمها الصحافة، وعانت تاريخيا مغربيا، فهذا علامة على أن أكبر جريمة أخلاقية ومهنية هو مصطلح “الإعلام الإلكتروني”! ففي كل التجارب المقارنة، في الجوار الأوربي المتوسطي، تُبيّن وجود صحافة مهنية، تواجدت تاريخيا وانتقلت إلى استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كمنصّات جديدة لعرض المنتَج الإعلامي المهني.

وفي المغرب، خرج علينا قوم يبشّرون باكتشاف مهنة جديدة، ما سبقهم إليها قوم من قبلهم، يقولون من دون استحياء إنهم صحافيون، يحملون بوقا ولا يحملون أبدا ورقة ولا قلما.

في بداية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، شاركت مع أقراني من جيلي في تأسيس التدوين كشكل للتعبير عن الرأي وليس كصحافة جديدة ولا بديلة، إيمانا منا بأن الصحافة كانت وستظل كما عرفتها البشرية منذ زمن “الكازيتات” الورقية.

ولما ظهرت مَنصات مواقع التواصل الاجتماعي، سارع المهرولون إلى الحديث عن “الإعلام الجديد”، أعلنت كفري بهذا المفهوم الجديد، لأنه يبيع الوهم فقط، لأن الصحافي هو صحافي فقط، أما التغريد فهو تعبير عن رأي أو نشر لمعلومة جديدة، يمكن أن يحولها الصحافي إلى خبر جديد.

تأتيني دائما فكرة افتتاح صيدلية، لماذا؟ لأنني أعرف قراءة “الرّوشيتات” وأوراق الدواء وأعرف معلومات عامة عن الأدوية وفوائدها ومركباتها، فهل سيرحّب بي الصيادلة زميلا لهم، بالرغم من أنني لست خريجا لكلية الصيدلة؟!

فلماذا يقبل الصحافيون في المغرب أن ينتسب إليهم الجميع، كل من هبّ ودب صار صحافيا!؟

باتت الصحافة في المغرب تقترن بنشر التفاهات الخاويات، في ظل تراجع للإقبال على المضمون الإخباري الجيد والجاد.

لأن القطار المغربي يتجه صوب الجيل الثالث من الإصلاحات، أي فتح أوراش اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، لا بد من فتح بوابة ورشة الإصلاح أمام قطار الإعلام، خاصة بعد أن كثر ركابه الهاربون من الرقابة القانونية.

وأخيرا، رجاءً صدّقوني، يقترب الكهربائيون بثبات من تنفيذ سرقة القرن في المغرب! فيا أيها الصحافيون المهنيون، أو آخر ما تبقى منهم: مهنة الصحافة تستغيث، فهل من مجيب؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *