حنان رحاب*

في سنة 2017 صوت البرلمان المحلي في إقليم كتالونيا لصالح إعلان الانفصال عن إسبانيا، ليرد بعد ذاك برلمان مدريد بفرض الحكم المباشر على الإقليم، كانت إسبانيا حينئذ تعيش أزمة غير مسبوقة.. فكيف كان موقف المغرب؟

تماشيا مع قناعة الدولة المغربية العريقة، بمواقفها الرافضة للانفصال وبلقنة الدول وتشبثها بمبادئ القانون الدولي وحسن الجوار، خصوصا أن الأمر هنا يتعلق بدولة تربطنا بها علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية متجذرة، أصدرت وزارة الشؤون الخارجية بلاغا واضحا لا غبار عليه، مفاده أن “المغرب يرفض المسلسل أحادي الجانب لاستقلال كاتالونيا، وتتشبث بسيادة مملكة إسبانيا ووحدتها الوطنية و الترابية”.

وقبل أسابيع من الآن، انتشرت إشاعة مفادها عزم المغرب منح اللجوء السياسي للرئيس السابق لكاتالونيا، كارلوس بوغديمون، فخرج مصدر رفيع المستوى لينفي الأمر نفيا قاطعا ويجدد التأكيد أن المملكة لا يمكنها، بأي شكل من الأشكال، أن تشجّع الحركات الانفصالية، معتبرا ما يروج “ضربا من ضروب الخيال”.

هكذا عبّر المغرب، كما دأب على ذلك دوما، بوضوح وشفافية، عن تشبثه بمبادئه الراسخة وبالقانون الدولي وحسن الجوار.

أما إسبانيا، الشريك التجاري الأول لمملكتنا، التي تجمعها بها علاقات تعاون وطيدة في مجالات الاستثمار والصيد البحري، ناهيك عن الأمن ومحاربة الإرهاب و الجريمة العابرة للقارات والهجرة… فكان جوابها انتهازيا، يعرّض مكاسب العلاقات التاريخية بين البلدين للخطر ويطعن الثقة الموجودة بينهما.

مدريد استقبلت، بدون خجل، إرهابيا يقود عصابة إجرامية يدعمها العسكر الجزائري الفاسد، بمال شعب شقيق بلغ به السّيل الزبى، فخرج وما زال يخرج في مسيرات ضخمة ضد الفساد والاستبداد، تستقبل مجرم الحرب “غالي”، من خلال مناورة تمت بسرية تامة عبر “عملية انتحال هوية وتزوير جواز سفر بهدف التحايل المتعمد على القانون”. لقد وجه الإسبان بذلك طعنة غادرة إلى ظهر شريكهم الوفي. وفي هذه اللحظة “الحرجة”، تخرج علينا وزيرة الخارجية الإسبانية، مباشرة بعد كشف خيوط المؤامرة، محاولة مراوغتنا، بخطاب طوباوي وأفكار مبعثرة، بأن “الاستقبال كان لدواع إنسانية” وأن هذا لن يؤثر عن علاقات بلدها بمملكتنا!

لنقلب المعادلة، ماذا لو دعم المغرب سنة 2017 نتائج استفتاء كاتالونيا، واستقبل كارلوس بوغديمون باسم مزيف، وخرج وزير خارجيتنا ليكرر الكلام نفسه، بلغة الخشب نفسها “أن الأمر تم لدواع إنسانية، وهذا لن يؤثر على علاقتنا بإسبانيا”؟.. لسنا نحن من سيجيب عن هذه المعادلة المختلة، ولا إسبانيا، المسؤولة عن تدهور العلاقات التاريخية، بمقدورها تقديم تفسير واضح حول الموضوع، لأنها ببساطة خانت “العلاقة المتميزة” وخرقت القانون. وبعد ذلك ضغطت على قضائها لتفوت عليه فرصة ذهبية لتأكيد استقلاليته. كان على القضاة أن يقوموا بمهمتم خارج حسابات السياسة ويقوموا باستدعاء المجرم، الذي صار له اسم أقرب إلى حقيقته “محمد بن بطوش”، زعيم عصابة “البطش”، خصوصا أن التهم الموجهة له ثقيلة جدا، وتصل إلى مستوى “جرائم ضد الإنسانية”.. دعاوى لم يتقدم لم بها المغاربة والصحراويون المغاربة فقط، حتى لا نسمع من جديد أسطوانة “نظرية المؤامرة”، بل صدر ذلك عن مواطنين إسبان أبا عن جد، نذكر منهم الخبير السياسي الإسباني المعروف بيدرو إغناسيو ألتاميرانو، الذي قدّم شكاية إلى قاضي التحقيق في محكمة مالقة، في 24 أبريل الماضي بتهمة التهديد والقتل والتشهير.

في هذه الحالة، ومع خرق إسبانيا مبدأ من المبادئ التي تأسست عليها العلاقات التاريخية بين البلدين، و بعد المسّ بجوهر التعاون وحسن الجوار من جانب واحد، فمن حق المغرب أن يعيد النظر في علاقات التعاون والشراكة حول عدد من الملفات، على رأسها الهجرة والصيد البحري وغيرهما… لا يمكن للمغرب أن يلعب دور الدركي لحماية مصالح دولة جارة لا تحمي مصالحه، وتخون الثقة والاحترام وحسن الجوار، وتناور ضد أقدس قضاياه، قضية الوحدة الترابية.. السن بالسن والعين بالعين والبادئ أظلم.

إذا اعتقدت إسبانيا أن الرباط ستتفهم مناورتها ضدها وضد القانون الدولي من خلال استقبال وحماية مجرم خطير، فلتتفضل لتتفهم على الأقل الحقيقة التالية: للمغرب الحق كذلك في مراجعة الكثير من الأمور، دفاعا عن سيادته وكرامة شعبه وقضاياه المصيرية. وإذا اعتقدت مدريد أن بإمكانها فعل ما تشاء وقتما تشاء ضد مصالحنا، دون أن نحرك ساكنا، فهي خاطئة تماما، فمغرب اليوم دولة كبرى بتاريخ عريق، لا تقبل الإهانة وليّ الذراع، وهي في الوقت نفسه دولة هادئة تحترم وعودها ولا تخرج عن مبادئها ولا تخون علاقاتها الاستراتيجية ولا ثقة شركائها!…

وقد حاول المغرب  تجاوز  إرث استعماري، آملا بناء علاقات تقوم على تأمين المصالح المشتركة، والتطلع للمستقبل، لكن في كل أزمة يكتشف أن العقلية الاستعمارية وريثة حرب الغازات السامة والفرانكوية ما زالت تتحكم في رؤية جزء من الفاعلين داخل الدولة الإسبانية للمغرب وقضاياه السيادية. 

ولذلك لا يمكن للمغرب أن يلعب دور دركي الهجرة السرية لصالح أي كان، وهو الذي تحول من بلد عبور إلى بلد إقامة لمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط وآسيا بسبب القيود المفروضة على حركة تنقل المهاجرين نحو أوروبا، مع ما يكلفه هذا التحول من أعباء مالية واجتماعية.

ولا يمكن أن يستمر في إنقاذ قطاع الصيد البحري الإسباني من الإفلاس دون عوائد سياسية ومالية متناسبة. ولا يمكن أن يقبل باستمرار تفرج الحكومة الإسبانية على حوادث الاعتداءات والمضايقات والحصار الذي تتعرض لها الفلاحة التصديرية المغربية وتواطؤها مع كبار الفلاحين الإسبان في خرق لاتفاقيات تم توقيعها مع الشريك الأوروبي..

وبجملة واحدة: المغرب اليوم لن يقبل بأقل من حماية مصالحه واحترام سيادتة..

**

*برلمانية اتحادية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *