رشيد قنجاع

لوحات بلعزيز تلعب على هوامش مراوغة مثل الحركة والوقت فيتحول المكان الذي ترسمه إلى قضبان تحيط بالشخصية وتأسرها من جميع الجهات، لوحة “النادل علي” لوحة “المليحات الثلاثة” ولوحات أخرى ترسم شخوصا في فضاءات تحمل داخلها الرغبة والألم والانتظار والإحساس بالنهاية، وتبدو  آخر لوحاته مستفزة على هذا المستوى، فهي تشرع لنا مداخل متعددة يمكن أن نقرا من خلالها تلك التمزقات التي يرمز لها الجسد الأنثوي والماء من خلال الصراع الأسطوري بين الليبيد وغريزة الموت والرغبة في الاستمرار عبر التناسل وحفظ النوع كما يفيد رد النحس، والأرواح الشريرة، وجلب الخصوبة والبركة مما يحيطه بوضع رمزي وحيوي غاية في الأهمية.

 وسأشرح الأمر بتقريب أكثر من خلال إحدى اللوحات الأخيرة التي يشتغل عليها بلعزيز والتي تابعت شخصيا عملية انبثاقها ووثقت للحظات خلقها الملأ بالإقبال و التراجع والصمت العميق والإحتفاء المتردد والمعالجات المتوثبة والإدغام المتواصل للصباغات أنها لوحة “المرأة و البحر”.

تصور اللوحة امرأة عارية تتأمل البحر، الماء يضيف إلى جسدها، هذه الكتلة الغامضة من الحضور بعدا آخر، فهي تسلم عبر شرودها العميق انشغالاتها الروحية إلى البحر، إلى ساعة تشير إلى قدر غير محدد، يحيل وجهها المسند على كف يغطي تفاصيل الوجه وبروزاته وتجاعيده وكل ما له صلة بالملامح مما يحيلنا إلى الغياب التام للذات، فالوجه شكّل دائما مدخلا للروح أو هو النافذة التي نطل من خلالها على الروح، إن حضور الوجه بشكل ضبابي باللوحة يرمز إلى غياب الروح وشرودها وتشردها وتماهيها المطلق مع البحر وغموضها، عكسه بلعزيز بفنية عالية عبر إفناء تفاصيل الوجه في ألوان طغت على ملامحه فأبعدته ونفته وغيبته. إن المرأة الجالسة القرفصاء بين أحضان الماء تقيم طقسا مع البحر، ولطالما اعتبر البحر مكانا للنجوى والشكوى والبوح والاعتراف إلى ذات لزجة، سائلة، رخوة تبتلع الأسرار وتغرق فيها الهواجس، فلطالما بقي البوح مدموجا بقوة في ممارسة التوبة،  والاعتراف ومقر استرجاع الذات وبصدده الأفكار التي رافقته والهواجس التي صاحبته والصور والرغبات وألوان والذكريات ونوعية اللذة التي تسكن فيه، كل إنسان يسلم نفسه إلى قدره وكل رحيل هو بالقوة آخر رحلة سابقة، و بالإضافة إلى ذلك فالتمعن في الماء قد يكتسح كل شيء فكل الذات النسوية في اللوحة موضوعة على الماء المتسرب بعناية إليها، إلا انه يفعل في اللوحة أكثر من ذلك، فاكتساح الماء للجزء السفلي من جسد المرأة وملامسته عبر جلسة تُباعد بين الساقين وان أفصحت عن العلاقة بين البحر والجسد والجنسانية في اللوحة إلا أنها تمعن في تثبيت العلاقة القائمة بين عنصري الماء والجسد، فلطالما كان عنصر الماء مدخلا أساسيا للطهارة، طهارة البدن ومن خلاله طهارة الروح في الوضوء الديني أو في التعميد المسيحي إلا انه هنا ومن خلال تركيبة اللوحة يحيل إلى العلاقة التي أقامتها المرأة مع البحر في الثقافة الشرقية.

 لقد بقي البحر في الثقافة الشرقية مقر التمركز الطقسي للاعتراف وانتشر واستخدم في سلسلة طويلة من العلاقات الجنسانية كطلب الزواج أو النسل، فالشرود والشكوى التي تحفل بها اللوحة يقسمها إلى جزئين متنافرين غير سويين الجزء العلوي للمرأة والذي يبدو خاليا من أي تعبير أنثوي إذ ينضم على مستوى اللون، مع انكسار لون الشعر وكأنه استمرار للشرود المقصود، وفي الجزء السفلي الذي يشمل الخصر والأرداف تحضر المشهدية الأنثوية باذخة وفاضحة يتسلل الماء غالى مناطقها الأكثر سرية وكثافة مع التركيز على تموضع الساقين منفرجين مستسلمة للماء ذلك السائل الدقيق الذي ينساب فوق مسام الجسم الإنساني لكي يفقده صلابته ويقوده إلى الفناء والحلول بالمنطق الصوفي.   

                    

تحضر المرأة في لوحة “المرأة و البحر” شكلا بشريا مسحوقا متورما والمعذب سرا ولا مكان لها للبوح بأسرارها إلا لهذا المخلوق الشاسع الذي تضيع في أعماقه كل الأسرار. لكن بلعزيز يتعمد رسم لوحته هذه من خلال مربعات تشكل عبر تكاملها نص اللوحة لجسد المرأة من خلال تركيبة لمجموعة من المربعات المنفصلة كل مربع – لوحة – يستكمل جزءا من تيمتها – وكأنه حين يحيطها ويسيجها بالماء ويترك لها فسحة لليابسة لكي تنفذ من خلالها خارج اللوحة وتستعيد حياتها العادية فانه يأسرها بقضبان مربعة وكأنها مسجونة أبدية للحظة مسجونة في تفاصيل البوح المتكرر لأسرار أبدية تؤكدها حركة الزمن الثقيلة على تضاريس الجسد التي يعكسها لون السماء .

إن المرأة باللوحة مسجونة  ضمن السبل الأكثر حرية والأكثر انفتاحا والأكثر مدى، إنها موثقة بشدة الى الملتقيات اللانهائية حيث يشكل جسدها في اللوحة ذاك الحجر الذي يشد البحار إلى قرون اليابسة وبدونه تكاد اللوحة تفقد توازنها و يطغى الماء على اليابس أو العكس قد يطغى اليابس ليندثر الماء . إنها بؤرة المرور بامتياز وفي نفس الوقت أسيرة العبور، والماء يضيف إلى هذه الكتلة الغامضة من الجسد بعدا أخر فالماء قد يكتسح كل شيء الا انه يفعل أكثر من ذلك انه يطهر و بالإضافة إلى ذلك فالإبحار في عوالم الماء يسلم الإنسان إلى قدر غير محدد وبلا ضفاف ولا توقعات كل إنسان يسلم نفسه إلى قدره وكل رحيل هو بالقوة أخر الرحلة، رحلة داخل مصدر آت من القلق المتزايد من البحر انه غير مضمون كما هي الأرض الصلبة فإذا لم يعرف الإنسان كيف يلقي بالمرساة الصلبة داخل هذا الأزرق الكبير الذي يملا الجسد بالبرد والرطوبة واللزوجة حيث كل تلك القطرات الدقيقة من الماء التي تنساب فوق مسام الجسم الإنساني تفقده صلابته وتقوده إلى الحنين أو الرغبة أو الجنون.

أعمال بلعزيز التشكيلية تبقى مرجعا فنيا وفلسفيا لقراءة العلاقة الملتبسة بين الجسد الخام والذات الواعية التي تترصد الجسد باعتباره كائنا خارجا عن الشرعية او القانون او السوية الأخلاقية، انه احتفاء بالجسد من حيث انه الوسيط الهلامي بين الوعي و الواقع والجسر الذي يربطنا بالعالم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *