قلم: عبدالإله فروات (كاتب مغربي)

بقدر ما يتحفك بعض الأصدقاء، خفيفي الظل، بمستملحات وحكايات جملية صباح يوم تكون ما أحوجك فيه إلى من يؤنس وحدتك، بقدر ما ينغص عليك البعض، من ثقيلي الجانب، ويعكر عليك صفو يومك بتلويك أحاديث ومواضيع، عفا عنها الزمن وفقدت بريقها باستنفاذها لمفعولها ولصلاحيتها.

ولفصل المقال فيما بين المنزلتين، فإن كل امرئ يتوق للظفر بموقع مع زمرة خفيفي الظل، ذوي الحديث المستلطف والمستحسن أينما ارتحلوا وحلوا. لذا، فإنني أستأذنك في اقتحام خلوتك هذا الصباح بحكاية أستضيفك عبرها إلى رحلة سفر من نوع خاص بامتياز، رحلة إلى مناطق من المغرب العميق الجميل، رحلة تجعلك تطمئن إلى أننا لم نضيع بعد كل شيء من نخوة المغاربة ونبلهم وشموخهم، ما دام في فضاءاتنا ما هو جدير بالحب ومستحق للإعتزاز.

نعم، في تلك القرى النائية القابعة وراء الجبال، أو في تلك البوادي المترامية الأطراف بسهول لم تمسسها حتى الآن جرافات المضاربين العقاريين، أو في تلك الصحراء التي تحتضنك رمالها الذهبية بقلب رحب محصن من أن يتسرب إليه الرياء، يستقبلك مغاربة بسطاء ببسمة صادقة وبنظرة محبة لا تعرف للنفاق سبيلا، يقتسمون معك ما تيسر لهم من الغذاء القليل لكن بدفء كبير.

هناك حيث الحياة تدب بإيقاع رقراق متناغم، يصادفك مغاربة لا يلهثون وراء جريان زمن الطمع المنهمر، لم تثنهم قساوة التضاريس ولا جفاف الطقس على أن يصمدوا في شموخهم وكرمهم وإنسانيتهم، مشكلين بذلك بحق ذاكرة المغرب بإمتياز وأيقوناتها الرمزية المتجذرة في جغرافيا المكان، لترتقي به إلى مقام الفضاء الإنساني الحافل بالمعاني، والمفعم بالاستعارات التي بها نحيى .

مخطئ من يعتقد أن هؤلاء الناس بعيدون عن “الحضارة”، فبعفويتهم ونبل مشاعرهم يبرهنون، بما لا يدع مجالا للشك، أنهم أرقى بكثير من كثير من الكائنات التي جاد بها زمن ردئ، فإستحالت إلى آليات تسحق كل من يقف في طريق أطماعها اللامحدودة وأنانيتها المفرطة وجشعها البداائي، فعن أية حضارة يتحدثون ؟ كائنات مرضى بالجبروت يقودها طموحها الشخصي الزائد عن الحد، إلى التضحية بالقيم النبيلة واسترخاصها إرضاء لنزواتها المتضخمة. فعن أية حضارة يتحدثون ؟

وأستسمحكم عن هذه الجرعة من الإطناب، التي نمني بها النفس و نشفي بها الغليل، إزاء هذه المخلوقات التي اكتسحت فضاءاتنا بدون استئذان، والتي لا يملك المرء حيالها إلا التأسف والحسرة على ما يقع بين ظهرانينا بفعلها، وندفع ثمنه غاليا، بما نتكبده من خسائر، بسبب إيقاظها لبعض الفتن النائمة، وحب إثبات الذات، وشحذ أسلحة البغض والكراهية لإلحاق الأذى بخصوم افتراضيين… فعن أية حضارة يا ترى يتحدثون ؟

ولن نبوح بسر إذا صرخنا، دون التحليق بجناحي الإستعارة والمجاز، أن الأوطان الراسخة في وجدان البسطاء وقلوب الصادقين أرقى من أن يحولها البعض إلى مجرد معادلات عقيمة، وأكبر من أن تختزل في حب يقاس بأمتار مربعة، يساوم بها تجار الأصوات هتاف البعض وصمت الآخرين، أو كركوز تحرك خيوطه أصابع غير بريئة من وراء الستار، تمرغ كرامتها في رمال البنايات والحيطان التي تتناسل كالأعشاب الطفيلية لتنتفخ بعائداتها الجيوب وتتضخم بها البطون.

ولم أجد أبلغ صدقا، وبساطة وعفوية في الحب، من تغني الشاعر بوطنه المفدى قائلا:

سواد العين يا وطني فداكا

وقلبي لا يود سوى علاكا

وكم نشأت من حر أبي

كساك من المفاخر ما كساك

إننا مهما غفونا أو تغافلنا، فلن تثنينا التفاصيل التافهة عن التغني بفضاءاتنا الرائعة المفعمة بعبق الماضي، كما لن تثبطنا الهموم الرتيبة عن التمسك بحلمنا المشترك المقدس، الملهم للمبدعين وللعشاق، الذي يلهج وجداننا بنشيده الذي في البال، وتحفظه ذاكرتنا عن ظهر قلب : منبت الأحرار

ومرة ثانية، بل ربما ثالثة، أعود للقول إن هناك في تلك القرى والجبال والسهول والصحارى من المغرب العميق، مازال للحياة معنى، وللزمان ذوق، وللطبيعة وجودها الساحر الذي لا تعوضه ولن تعوضه منشآت إسمنتية مهما ارتفعت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التعليقات
  1. والله انك لتتحفنا وتعود بنا تارة إلى اصولنا الحقيقية؛ فمزيدا من التألق والابداع في مواضعك الهادفة

  2. بالفعل هناك أناس لا يمكننا نسيانهم تركوا بصمتهم في أنفسنا بعفويتهم وبصفاء قلوبهم يقدمون كل ما لذيهم إبتسامتهم كلماتهم الحلوة تجدهم متحضرين رغم سكنهم وطريقة عيشهم البسيطة، لكن للأسف الشديد هناك نوع من بني البشر لا تفقه لهم قولا وتحس بالملل عند مجالستهم وحديثهم لا تجني منه نفعا أجارنا الله وأياكم من هؤلاء
    تحياتي للكاتب الكبير و الانسان الجميل عبد الإله فروات