بقلم: يونس أبشير

يعيش العالم على وقع وضعية خاصة وأزمة غير مسبوقة بعيدا عن توقعات كانت تنذر بأزمة سياسية عالمية. بالفعل كان الجميع واعتبارا لمستوى التشنجات والتقلبات على الصعيد الدولي ينتظر حلول أزمة عالمية، وكان الجميع يتوقع نشوب حروب مستقبلية، تدخل العالم في أزمة شمولية، لكن الحرب أعلنت بسرعة غير متوقعة وبصفة لا إرادية من طرف جميع الدول وضد عدو واحد.

المغرب، شأنه في ذلك شأن كل الدول وجد نفسه طرفا في هذه الحرب، دونما أي اختيار أو توجه أو تموقع في معسكر دون الآخر، ذلك أن الحرب كانت شاملة ووضعت الجميع في خندق واحد وهو مواجهة الكورونا فيروس، وكما لم يتوقع الجميع كانت الحرب صحية ووضعت الجميع أمام تحدي وحيد وهو الخروج بأقل الخسائر.

لقد أثبتت هذه الأزمة الصحية وجود دولة قوية بالمغرب، استطاعت بقيادة عاهل البلاد ايجاد صيغة متوازنة بين الحزم في تنزيل إجراءات حالة الطوارئ الصحية، وتدبير اقتصادي ناجع يمكن من الحفاظ على أدنى مستويات دوران الميكانيزمات الاقتصادية في ظروف غير مسبوقة في التاريخ الحديث، حيث أن كبرى الاقتصاديات وجدت صعوبات كبرى في تحقيق هذه التوازنات.

وهنا، يبرز سؤال مهم ومحوري: مامدى استيعاب المجتمع المغربي وخصوصا فئات الشباب لتجليات هذه الأزمة؟ وكيف يمكن أن يتفاعل الشباب المغربي مع مرحلة ما بعد الأزمة؟

أولى الأزمات التي يعيشها الشباب المغربي

أولا، يمكن الجزم أن الشاب المغربي بصفة عامة لم يسبق أن عاش خلال أي فترة من التاريخ الحديث للبلاد أيا من مظاهر الضغط الجماعي، فالصراع من أجل الاستقلال انتهى منذ أزيد من 60  سنة، والتجاذبات السياسية المجتمعية والطلابية أنهت أوجها في ثمانينيات القرن الماضي، وآخر المصالحات السياسية عرفتها بلادنا في أواسط التسعينات، حيث أن آخر توقيف استثنائي احترازي للدراسة كان في بداية التسعينات إبان حرب الخليج الأولى.

بل الأكثر من ذلك، فإن معظم الشباب المغربي استهل حياته خلال فترة القفزات الكبرى للانفتاح الاقتصادي والانفراج السياسي، التي ميزت أولى سنوات الألفية الثالثة. هذه المكتسبات الكبرى التي رسخت الثوابت القوية التي تقوم عليها البلاد وعلى رأسها دولة المؤسسات التي كان لها الدور المحوري اليوم في التعاطي مع الأزمة الراهنة.

وبكل واقعية، فالملاحظ أن ما يمكن الاصطلاح عليه بفترات الضغط والتي تمتد من مرحلة ما قبل الاستقلال إلى مرحلة المصالحة السياسية، كانت قد ساهمت في إفراز نخب سياسية شابة، استطاعت من موقع أو آخر المساهمة في بناء المغرب الحديث الذي نعيشه اليوم والذي لا يمكن أن ننكر تميزه عن عديد من الدول المشابهة في محيطنا الإقليمي والدولي. ولكن، من جهة أخرى، من المؤسف ان نستخلص أن الشباب المغربي اليوم ربما قد خالف موعده مع المجتمع، فمرحلة الانفراج السياسي والانفتاح الاقتصادي لم تعرف نفس دينامية انتاج النخب سواء السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية. وهذا راجع في حد ذاته إلى التراجع المتواصل للمنظومة التعليمية، وغياب سياسة مندمجة للشباب، وضعف التأطير الإعلامي والثقافي والفكري سواء داخل الأسر، أو المدارس أو حتى داخل الأحياء وباقي الفضاءات المجتمعية.

بل الأكثر من ذلك، فمع دخول البلاد عصر الانفتاح التكنولوجي وتوفر وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة للجميع كجزء من العولمة الشمولية، أخطأ الشاب المغربي (بصفة إرادية أو لاإرادية) التعامل مع هذه الوسيلة الفاعلة للتقدم، فبحكم السهولة اللغوية والإرث التراثي، بدل فتح نافذة الشمال أو الغرب، كان الانفتاح مشرقيا، وللأسف كان هذا انفتاح على مجتمعات استهلاكية، وهذه حقيقة يجب طرحها بصراحة، فإخواننا بالشرق يعيشون داخل مجتمعات ثرية واقتصاديات تقوم على توزيع ريعي لعائدات الثروات الطبيعية قوامها غنى الأرض بالبترول والغاز، كما يسودها إعجاب متجدد بمستعمر تاريخي مسلم وغير عربي، يحلم بإعادة أمجاد دولة كان مجالها الحيوي والطبيعي هو الوطن العربي، الذي لم يرث من هذه الحقبة إلا الوهن الذي يعيشه حاليا.

والمغرب لا ولن يمكن أن تسوده هذه الثقافة، لأنه وبكل اختصار، من المفترض أن نكون مجتمعا منتجا، قادرا أولا على إنتاج الثروة قبل التفكير في ترف توزيعها. ليس بإمكاننا تبني هذه الثقافة، لأنه وبكل بساطة نفتقد لمقوماتها.

ولكن، خلال هذه الأيام، أدركت مدى الضرر الذي سببه هذا التوجه، لان ثاني الحروب التي كان علينا خوضها بعد الحرب الصحية، هو الحرب ضد الإشاعة وضد التفاهة وضد أشباه المؤثرين والرقاة والمعالجين، الذين اكتشفنا بتأخر ومرارة كبيرين مدى تمكنهم من نسيجنا المجتمعي، في أوساط شبابنا، وحتى داخل منازلنا ووسط عائلاتنا.

ولكن، من جهة أخرى، يجب أن نعترف للقيادة السياسية، وعلى رأسها الملك محمد السادس، أنها لم تكن لها أبدا هذه النظرة ولا هذه الرؤية، فانخرط المغرب في كبرى المشاريع المهيكلة التي عملت على تنويع الاقتصاد وتطوير القطاعات المنتجة، هذه المشاريع والمخططات التي تجنب المغرب اليوم الدخول في أزمة أكثر قتامة وسوداوية.

مخططا المغرب الأخضر وأليوتيس هما اللذان يمكنانا اليوم من أمن غذائي واكتفاء يجنبنا صرف احتياطات العملة الصعبة لتوفير الغذاء للمواطنين. كما لا يمكن إنكار دور مخطط التسريع الصناعي، الذي ساهم بتواز في تنويع مصادر الاقتصاد وفي تنشيط التشغيل وتكوين الكفاءات الوطنية. ولا ننسى دور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في خلق نسيج مهم للاقتصاد الاجتماعي والتضامني ليس فقط داخل المدن، بل حتى في أقصى البوادي المغربية.

أي توجه بعد أزمة الكورونا فيروس؟

من الضروري أن تكون هناك نتائج لهذه الأزمة، والخسائر ستمس كل الدول والمجتمعات دون استثناء، وستضع الجميع داخل مرحلة فاصلة من التاريخ، حيث أن الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستكون حاسمة في مصير الدول، فإما كما هي الإصابة بهذا المرض، أن تكون لنا أعراض خفيفة وتعاف سريع، أو سيفرض الدخول في وضعية حرجة والوصول لموت سريري.

وأنا هنا لن أتطرق للحلول الاقتصادية، فهذه المنصة التفاعلية، التي أفتخر بأن الحزب الذي أنتمي إليه كان سباقا لأحداثها، مليئة بالحلول الواقعية والقابلة للتطبيق، والتي من دون شك لن ندخر جهدا في تبنيها والدفاع عنها من أي موقع سياسي سيكون لنا لاحقا.

أما في الجانب الاجتماعي، فلقد أثبتت الوضعية اليوم، أن المجال يتيح تنزيل مجموعة من الأفكار التي جاء بها مسار الثقة، والتي يجب تطبيق بعضها بصفة استعجالية إحقاقا للعدالة الاجتماعية والمجتمعية، ومن بين هذه الأولويات:

إحداث وكالات جهوية للصحة، لان مقاربة التدبيرالجهوي هي التي أثبتت نجاعتها في مواجهة بلادنا لهذه الجائحة، مراجعة مقاربة تدبير الموارد الصحية، فمن كبرى التحديات التي وضعها مسار الثقة، هو مدى فعالية الطبيب الموظف في توفيرالعرض العلاجي: فتوفير هذا العرض يقتضي وجود إطار صحي بغض النظر إن كان في قطاع عام أو خاص، استعمال أوسع لتكنولوجيا التواصل قصد توفير إمكانيات التشخيص عن بعد ودمقرطة العلاج، وأخيرا، تكريس فكرة “طبيب الأسرة”، كمكون أساسي وأولي لفعالية المنظومة الصحية ككل، أما قطاع التعليم، فهو مربط الفرس لهذه الاختيارات الكبرى، لهذا يجب الإسراع بـ:

تنزيل إصلاح منظومة التربية والتكوين، وخصوصا بتطوير المهارات والكفاءات المتعلقة بالمواد الحية واللغات لدى كافة التلاميذ، إنشاء مدرسة عمومية لجميع المغاربة، قادرة على توفير تعليم ذي جودة للجميع، مضاعفة أعداد المدارس الجماعية والجماعاتية، حيث يتكاملا لتلقين مع وسائل العناية الاجتماعية التي تفرض انخراط الجماعات الترابية في تكوين أبنائها، تطوير تعليم الفرص، من خلال تكريس مبادئ الجسور التعليمية وتثمين المكتسبات، في إطار منظومة للتكوين مدى الحياة.

أي مجتمع؟

ولكن الأكثر من هذا وذاك، هو ترسيخ مبدأ التعلم على حساب التلقين، فالمنظومة التعليمية والمنظومة المجتمعية ككل يجب أن تعمل على إفراز جيل جديد من النخب، ومن الكفاءات. يجب أن نعمل على بناء إنسان مغربي، مبتكر، مجدد، ناقد قادر على التعاطي مع المتغيرات، يجب أن نقطع مع مبادئ التلقين الأحادي الذي من مخاطره تكريس كائنات استهلاكية، متطابقة ومنساقة.

من المفروض اليوم في منظومتنا المجتمعية، تكوين شباب يؤمن بدورة الإنتاج وخلق الثروة قبل توزيعها، شاب يحسن قراءة الأحداث والظواهر ويترجمها في خيارات مجتمعية وسياسية صائبة.

حاجتنا اليوم إلى شباب مؤمن بقدرة الفاعل السياسي في تغيير واقعه وواقع مجتمعه، وبالتالي يقبل على الانخراط في عملية سياسية واقعية وبراغماتية تحسن من واقعه المعيش وواقع أسرته، فالخلاص الفردي ليس إلا جزءا من الرفاه الجماعي.

وباختصار، فالشاب الذي لا يحسن اختيارات اليوم، سيمارس عليه الآخرون اختياراتهم، وسيبقى غدا كما اليوم ضحية لواقع يحسن انتقاده ولا سبيل له لتغييره.

  • مساهمة يونس أبشير، رئيس المنظمة الجهوية للشبيبة التجمعية بجهة فاس مكناس في منصة “maba3dcorona”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *