جليل طليمات*

تحل كل 18 دجنبر ذكرى الاغتيال الشنيع لأحد أبرز وأخلص مناضلي ورموز الحركة التقدمية اليسارية المغربية، عمر بنجلون. لقد كانت لتلك الجريمة النكراء كلفة غالية على حزبه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعلى مجموع القوى الديمقراطية والتقدمية في بلادنا. وفي هذه الذكرى الأليمة، التي تحل في سياق سياسي وطني وإقليمي ودولي دقيق ومعقد وفي وضع حزبي متردّ ومشلول الفعالية، من الأجدر بنا استحضار سيرته الفكرية والنضالية، النقابية والحزبية، والتأمل فيها. فبعد أربع وأربعين سنة على اغتيال المناضل والمثقف عمر بنجلون، يمكن القول، وبكل ألم، إن الحاجة إلى حضوره مازالت قائمة وبحدة أكبر في  زمن الحضيض الحزبي والانهيار القيمي للعمل السياسي، كما يمارس واقعياً هنا والآن.. لماذا؟ وأين تتمثل هذه الحاجة إلى فكر الشهيد عمر ونضاليته؟

  

1- لأن  هناك حاجة إلى الوضوح في ظل هيمنة ما كان الشهيد يسميه “الالتباس” ولأجل مواجهة السلوكات الانحرافية والانتهازية التي استشرت في المجال السياسي، وبخاصة في الحقل الحزبي؛

 

2- لأن هناك حاجة إلى رؤية الشهيد التقدمية المؤسسة على الإيمان بالاشتراكية كإيديولوجيا وكأفق حتمي لنضال الشعوب من أجل الحرية والكرامة في زمن “الليبيرالية المتوحشة” واستشراء “اللبرلة” باسم الحداثة في صفوف القوى التقدمية ذاتها. إن الاشتراكية في منظور الشهيد عمر هي السلاح الفكري لمواجهة مختلف أشكال “الزيف الإيديولوجي” وليست، كما ظل يوضح ذلك، فكرا دوغمائيا منغلقا. فالاشتراكية، كما يشرحها عمر منافية لأية دوغمائية، لأن روحها هي الجدلية التاريخية؛ إنها “اشتراكية علمية” إذن. وقد ظل الشهيد وفيا لهذا التوصيف للاشتراكية في كل كتاباته ومحاضراته، التي كان يواجه فيها ما كان يسميه “إيديولوجيا الأصالة”، التي يعدّها خداعا وتضليلا للجماهير من طرف أبواق “الزيف الإيديولوجي”؛

3- لأن هناك حاجة إلى الربط الجدلي بين النظرية والممارسة، بين الثقافة والسياسة، بين الإيديولوجيا والتنظيم؛ لمواجهة الفكر الظلامي، من جهة، وللتصدي لمختلف النزعات  والسلوكات المضرة بالدور الطليعي للطبقة العاملة في النضال التقدمي، من جهة أخرى. وفي هذا الصدد، فإن ارتباط الشهيد عمر، منذ سن مبكرة، بالطبقة العاملة ونضاله  المستميت والصبور داخل النقابة كلفته متاعب كبرى، خاصة على يد البيروقراطية النقابية، التي نهجت سياسة “خبزية” بغاية عزل النضال العمالي عن نضال الحركة التقدمية المغربية. وسيظل جهد الشهيد، العملي والتنظيمي، من أجل إصلاح الحقل النقابي بما يحقق ريادة وطليعية الطبقة العاملة في التغيير ملمحا بارزا في سيرته النضالية ودرسا حيا إلى اليوم لا بد من الاسترشاد به في أي إصلاح لأعطاب وانحرافات الحقل النقابي القائم؛

4- لأن هناك حاجة إلى تحيين “المذكرة التنظيمية” الاتحادية التي صاغها بنجلون بغاية تقوية الجسور بين الحزب وبين المجتمع، خاصة الطبقة العاملة والشباب، ومن أجل تحويل التنظيم الحزبي فعلا إلى “أداة توسط  بين النظرية والممارسة”. ولا شك في أن ما تعيش أحزاب وتنظيمات اليسار عموما، من اختلالات وأزمات داخلية ومن انفصال عن المجتمع، لَيطرح عليها -بإلحاح- تجديد ثقافتها التنظيمية: توجهات وهياكل ومساطر، وفي نص وروح المذكرة المشار إليها ما يفيد في تحقيق ذلك، إن” صدقت النيات”؛

      

5- لأن هناك حاجة إلى الالتزام المبدئي والعملي بمنظوره الوطني التحرري والقومي التقدمي للقضية الفلسطينية، التي كان لعمر الفضل الكبير في ترسيخها في الأدبيات السياسية كـ” قضية وطنية”، من خلال كتاباته ومحاضراته وخلال تحمله مسؤولية إصدار صحيفة “فلسطين”. ففي ظل ما تعاني القضية اليوم من إدارة للظهر بتواطؤ بين جل مكونات المجال السياسي وما يجري، علنا وفي الخفاء، من أشكال ومبادرات للتطبيع مع الكيان الصهيوني ومن أجل  محو آثارا لشعار الغبي “تازة قبل غزة” ومواجهة أبواق التطبيع ذات الخلفيات العرقية التي تختزل القضية الفلسطينية في كونها مجرد “قضية إنسانية”، أي لاهوية عربية لها ولا إسلامية! فنحن في حاجة إلى تفعيل ملموس وفعال ومؤثر للالتزام العمري بهذه القضية الوجودية  المصيرية، باستحضار ما خلّف من مقاربة للصراع العربي الإسرائيلي من منظور وطني قومي تحرري وتقدمي.

لقد فقدت الحركة الاتحادية وكل قوى الصف الوطني الديمقراطي التقدمي في عمر بنجلون منارة للعمل السياسي والحزبي المؤسس على الوضوح في الرؤية والجرأة في اتخاذ المواقف والقرارات المطابقة لمتطلبات الواقع الموضوعي مهما تطلب ذلك من ثمن وتضحيات، ما جعله المستهدَف الثاني بالتصفية الجسدية بعد الشهيد بنبركة من قبَل قوى الرجعية والتبعية؛ فاغتيل بأسلوب دنيء زج فيه الدين في أوسخ جريمة سياسية نفذتها أياد جاهلة.  

 

وفي اغتيال المهدي بنبركة في 1965، ثم اغتيال عمر عشر سنوات بعده، ما زالت الحقيقة الكاملة لهذين الفعلين الإجراميين ضائعة، وبالأصح “مضيعة” حتى ونحن في عهد “الإنصاف والمصالحة”!

*مناضل يساري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *