الدكتور نجيب صومعي

أكد الملك محمد السادس حرصه على جعل المواطن المغربي في صلب عملية التنمية، والغاية الأساسية منها، وذلك من خلال مقاربة تشاركية وإدماجية، في معالجة القضايا الكبرى للبلاد، تنخرط فيها جميع القوى الحية للأمة. وهذا يبرز مدى التزام رئيس الدولة من أجل تعزيز منظومة الرفاه وتقوية التمكين التنموي للشعب المغربي.

وقد تمكن المغرب بفضل مجهودات الملك، من إحراز تقدم كبير في دينامية تحرير الطاقات التنموية، وذلك عبر هندسة محكمة لاستراتيجية الأوراش الكبرى، وتحفيز النمو من خلال جيل جديد من الإستثمارات التي غيرت معالم المغرب، ومهدت للولوج التقني لنادي الدول الصاعدة، في انتظار الولوج الفعلي لهذه المجموعة الاقتصادية الرمزية. وهو ما لن يتأتى دون اعتماد نموذج تنموي براغماتي ومتقدم ومنسجم مع متطلبات المستقبل القريب، في سياق دولي سريع التحولات من جهة، وعشية الثورة الصناعية الرابعة من جهة أخرى. 

كما قدم الملك “نموذج أعمال modèle des affaires” اللجنة التي ستعمل على إعداد النموذج التنموي، التي أراد منها أن تقوم بمهمة ثلاثية: تقويمية واستباقية واستشرافية، ونظريا هذه هي مفاتيح نجاح أي عملية تحول مهما كان حجمها وطبيعتها وتوجهاتها. ومن جانب آخر أكد الملك على الطابع الوطني، لعمل اللجنة، وللتوصيات التي ستخرج بها، وللنموذج التنموي الذي نطمح إليه: نموذج مغربي- مغربي خالص. وهو ما يؤسس لفلسفة تنموية جديدة، هذه المرة ستكون نابعة من طبيعة الاعدادات (paramètres) الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للمملكة. وهذا يشكل تغيرا جوهريا في نوعية التوجهات المستقبلية لبلادنا، حيث أننا سنتوجه للمستقبل بنموذج جديد صنع للحالة المغربية، لا نموذج “جاهز” ومستورد وغير قابل للتنزيل والتنفيذ.

وأكد الملك أنه يتطلع بأن يشكل النموذج التنموي، في صيغته الجديدة، قاعدة صلبة، لانبثاق عقد اجتماعي جديد، ينخرط فيه الجميع: الدولة ومؤسساتها، والقوى الحية للأمة، من قطاع خاص، وهيآت سياسية ونقابية، ومنظمات جمعوية، وعموم المواطنين. كما يريده أن يكون عماد المرحلة الجديدة، التي حدد معالمها في خطاب العرش الأخير: مرحلة المسؤولية والإقلاع الشامل.

إن هذا الاقلاع الشامل، لا يمكن أن يحدث دون تحول في منظومة العقليات ومنهجية التدبير(managament)، خاصة وأن الثورة الصناعية الرابعة هي مصير لا مفر منه وحتمية كونية لا رجعة فيها، فإما أن نتموقع في جزء ولو بسيط منها، وإلا الاستمرار في التخلف والتأخر والتواضع.

والغاية من تجديد النموذج التنموي، ومن المشاريع والبرامج التي أطلقها الملك، هو تقدم المغرب، وتحسين ظروف عيش المواطنين، والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية. وهذه الأهداف تسلتزم أساسا تدابير وتوجهات مبتكرة وقابلة للتطبيق، والتحدي الأساسي سيكون هو آليات ترصيد الكفاءات والتجسير بين الأجيال، لأن المستقبل يحتاج لتآزر جيلي عميق ومستدام.

ونعتقد أن أهم عوامل الانتقال التنموي تكمن أساسا، في الابتعاد عن التشخيصات السطحية والتدابير الكلاسيكة الجاهزة، فنحن بحاجة لتحيين (reset) شامل للنظام التنموي الوطني، بمعنى إعادة النظر في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وذلك عبر ابتكار تدابير تسرّع سبل الانتقال وتحفز خلق الثروة وتقوي مكانة الانسان كرافعة لمغرب القرن الحادي والعشرين.

كما يجب الارتقاء بالعالم القروي والمناطق الجبلية، وتسريع مسار تقليص الفجوات بين البادية والمدينة، من خلال خلق مناخ أعمال قروي خالق للثروة، وتعزيز الترابط اللوجيستي بين القرية والمدينة من جهة، وبين القرية وبقية العالم من جهة أخرى. ومن شأن كل هذا تحفيز الصناعة والتجارة والخدمات ومعها الجاذبية الاقتصادية القروية.

ويظل التمكين الاقتصادي للشباب هو رهان النموذج التنموي، خاصة في ظل نعيم العائد الديمغرافي الذي تعيش فيه بلادنا، وهنا يجب إعادة النظر في ميكانيزمات تقييم الكفاءة، فالشواهد وحدها لا تكفي، بل القدرة على المنافسة في سوق الشغل هي العامل الفيصل، ويجب مواكبة هذا التغير بتعزيز أخلاقيات التشغيل والابتعاد عن مفهوم “باك صاحبي” الذي يدمر الإدارة والكفاءات ومصالح الوطن.

كما أن الاستثمار في منظومة البحث العلمي والابتكار، سيكون أحد مفاتيح نجاح مسار التحول التنموي، وهنا ينبغي تقوية مكانة الأستاذ في منظومة الإنتاج العلمي عبر المصاحبة والمواكبة التقنية والمالية، وذلك بجانب الارتقاء بمختبرات البحث العلمي ومأسستها وتحديد آليات اشتغالها بنص قانوني واضح وقوي. كما ينبغي العمل على تمكين الأجيال الصاعدة من مهارات الذكاء الاصطناعي وتسهيل للتجسير بين الجامعة والمقاولات المبتكرة من جهة، وبين مؤسسات التكوين المهني وهذه للمقاولات من جهة أخرى، لضمان انبثاق منظومة وطنية شاملة وكاملة للمقاولات المبتكرة والخالقة للثروة العالية.

لقد عبّر الملك بدقة على متطلبات المرحلة، حيث أننا نحتاج لتجديد قيم “الجهاد الأكبر” في انسجام كبير بين ملكين كبيرين؛ الملك محمد الخامس و الملك محمد السادس. وهذا يظهر عمق رؤية المؤسسة الملكية وقدرتها على التغيير في إطار الاستمرارية. ومن شأن التقيد بثقافة تامغربيت في إطارنا التنموي الجديد، انتاج نموذج ملهم وقابل للتصدير، وسنحاول في مقالاتنا القادمة تفصيل بعض النقط وتقديم مقترحات وتوصيات للمساهمة في الوصول إلى المغرب الذي نستحق والمغرب الذي نريد.

 

باحث ومحلل اقتصادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *