عبد الرزاق بوتمزار- le12.ma

لولا الصدفة لربما كُتب لخوان غويتيسولو أن يكون “بول بولز” جديدا يستقر في طنجة -البوغاز، يهيم بعواملها وتهيم به وقد لا تعرف عنه مراكش أو يعرف عنها الكثير. لكنّ أقداره أبت إلا أن تنتهي به إلى أرض السبعة رجال قبل أزيد من أربعين سنة. فكانت بدايةَ عشق لم تنتهِ إلا والموتُ يُنهي حياة أشهر الكتاب الإسبان في العصر الحديث، بل واحد من أعظم من كتبوا بلغة سيرفانتيس على مر العصور.
في 4 يونيو ترجّل، إذن، خوان غويتيسولو عن صهوة الحياة والإبداع، لتُطوى صفحة مشرقة من العطاء امتدّت لأزيد من سبعين سنة، مكرّسةً اسم غويتيسولو واحداً من أكثر الكتاب المعاصرين إثارة للجدل، ليس في بلده فقط، بل في مختلف الأوساط الثقافية والأدبية العالمية، لما امتلك من جرأة وخصوصية إبداعية واستقلالية في الفكر والأسلوب…

كانت حياة خوان غويتيسولو منذورة للترحال والمنافي الاختيارية؛ ولا غرابة في ذلك إذا وضعنا في الاعتبار معاصرته لنظام الدكتاتور فرانكو، الذي عُرف آل غويتيسولو بمناهضتهم الشّرسة له. فبسبب قصف الجنرال العشوائي لبرشلونة، أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، ستسقط والدتهم جثة هامدة؛ ليتيتّم الإخوة غويتيسولو ويهيم كلّ واحد منهم على وجهه باحثاً عن معنى ثانٍ للحياة بعيدا عن حضن الأم (والوطن بالنسبة إلى بعضهم، كما هو حال خوان) الذي حُرموا منه وأكبرهم لا يتجاوز العاشرة.
في فورة حماسه السياسي سيكتب رواية “لعبة الأيادي” (1954) لكنه تعرّض للمنع، فشعر بالاختناق داخل بلده، حيث حُكم عليه (غيابيا) بالسجن. قرر خوان غويتيسولو الهجرة إلى باريس، التي استقر فيها منذ سنة 1956، وأخذ يتحول تدريجيا إلى نجم من نجوم المشهد الثقافي الباريسي. في عاصمة الأنوار سيشتغل خوان غويتيسولو في دار “غاليمار” مسؤولا عن الأدب المكتوب بالإسبانية، فكان همزة وصل بين الثقافتين الإسبانية والفرنسية. لكن لقاءه بجان جيني كان نقطة تحول محورية في مساره الأدبي، إذ انتبه، بتعرُّفه على صاحب “الأسير العاشق”، إلى نموذج الكاتب الذي يحلم بأن يصيره. كما اكتشف أن الأضواء الباريسية بدأت تُبعده عن طموحه العميق في كتابة أدب حقيقي ينشغل بقلق الإبداع في تجلياته العميقة والصادقة، وليس بهواجس الشهرة والذيوع والأضواء الخادعة.
في 1968 نشر غويتيسولو روايته “علامات هوية”، التي بوّأته مكانة متميزة بين أبرز أسماء الأدب الإسباني. ففي هذه الرّواية فجّر خوان غويتيسولوكامل طاقته الإبداعية، مبتكرا أسلوبا أدبيا فريدا خاصا به. كما ضمّن الروايةَ مجموعة من المواقف السياسية الراديكالية. وزكّى غويتيسولو هذا الموقع الاعتباري الذي حازه بأعمال تأملية في الأدب والسياسة والتاريخ، أبرزها “إسبانيا والإسبان” (1979).

مسار حافل وجوائز عالمية
رأى خوان غويتيسولو النور يوم 5 يناير 1931 في أحضان عائلة مثقفة ونشأ في وسط بورجوازي، في جو مفعم بالفن والأدب والإبداع. وأغنى غويتيسولوالخزانة العالمية بما يزيد على 60 مؤلفا، توزعت مواضيعها بين الحكايات وأدب الرحلة والشعر والتاريخ. اشتهر في العالم العربي بكتابه “إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فكّ العُقَد”، الذي دافع فيه عن الثقافة العربية ودورها في التقريب التاريخي بين الشعوب والأمم. كما وقع العديد من المقالات في كبريات الصحف الإسبانية تناول فيها الأثر العميق للغة العربية والحضارة الإسلامية في المجتمع الإسباني، مدافعا فيها عن الثقافة العربية ودورها -عندما كانت في أوج تألقها- في التقريب بين الشعوب. كما عُرف عنه دفاعه المستميت -بالكلمة والحضور الفعلي- عن قضايا الشعوب المستضعَفة (فلسطين، العراق، الشيشان، البوسنة، الجزائر)…
حصل خوان غويتيسولو على العديد من الجوائز الإسبانية والعالمية، من بينها “جائزة أوروباليا” (1985) عن مجمل أعماله حتى ذلك العام، و”جائزة أوكتافيو باث للمقال والشعر” (2002) و”جائزة خوان رولفو” لآداب أمريكا اللاتينية والكاريبي (2004) و”الجائزة الوطنية للآداب الإسبانية” (2008). كما منحته مؤسسة “الحضارات الثلاث” (2009) “جائزة الآداب والثقافات”. وفي 2007 تقرر إطلاق اسمه على مكتبة “معهد سيرفانتس” في طنجةتكريماً له. وفي عام 2010 تسلم غويتيسولو من الملك الإسباني جائزة “دون كيخوت دي لامانتشا” العالمية عن مجمل أعماله. وبعد ذلك بشهرين، فاز بجائزة “كيخوت”، التي تمنحها سنويا جمعية الكتاب المحترفين الإسبانلكاتب إسباني.

“جامع الفْنا تراثاً شفهيا للإنسانية”..
ظل غويتيسولو، طيلة العقود الأخيرة من عمره التي قضاها في مراكش، قريباً من نبض الشارع المغربي (والعربي) من خلال احتكاكه اليومي بشخوص وأهازيج وروائح الساحة العريقة “جامْع الفنا”. وتدريجيا، صار مصدر إشعاع عالمي جذب الانتباه أكثر إلى المدينة “السياحية”. ويتضح اهتمام غويتيسولو بالمغرب وبالحضارة العربية والإسلامية من خلال مجموعة من تآليفه، أهمّها “مشكلة الصحراء” (1979) و”إسطنبول العثمانية” (1989) ورواية “مقبرة” (1999) وكتاب “من دار السكة إلى مكة” (1997) الذي عكس اهتمامه وقلقه بشأن العلاقة بين الغرب والإسلام.
انتقد غويتيسولو، مرارا، من لا يسعون إلى معرفة الثقافة العربية، ومن ذلك تصريح شهير قال فيه “قال لي أحد الأصدقاء العرب المختصّين في الدراسات الإسبانية: هل تعلم بأنك أول كاتب إسباني يعرف التحدث بلهجة عربية منذ “راهب هيتا”، في القرن الرابع عشر؟ فتخيلوا ذلك! إنه لَأمر يحزّ في نفسي”..
كرّس خوان غويتيسولو اسمه وتاريخه لخدمة مراكش وثقافتها وأعطاها من جهده وطاقته وحرصه ما لم يمنحها كثير من “أولادْ لبلادْ”، رغم أن استقراره في مراكش كان بمحض صدفة، لولاها ما كان للمدينة أن تحظى بشرف احتضان قامة أدبية عالمية من قيمة خوان غويتيسولو. فقد حط الرحال، بعد محطة باريس، في طنجة (1976) إلا أنه فوجئ بحضور الإسبانية بقوة في أحاديث الناس هناك، هو الذي كان يرغب في تعلم اللغة العربية. فقرر في السنة ذاتها الاستقرار في مدينة مراكش حتى يتمكن من تحقيق ما جاء إلى المغرب من أجله.
تعلق خوان غويتيسولو، الذي حصل لاحقاً على عضوية اتحاد كتاب المغرب وصار يقدّم نفسه للعالم ككاتب مراكشي ويردد في حواراته الصحافية أنه “ابن جامع الفنا”، بالساحة وتعرّف على أحد روادها وقتئذ هو “الصاروخ”، الذي اشتهر بنقده وسخريته اللاذعين من أوضاع المجتمع. وصار الصاروخ “معلم” غويتيسولو ورفيقه الذي قرّبه من المجتمع المراكشي وفك له شيفرات الكثير من ألغاز الساحة ومغالقها، التي لم يكن غويتيسولو ليدركها بتلك السهولة. وفي هذا الإطار أصدر روايته الشهيرة “مقبرة” (1980) التي خصّ فيها ساحة جامْع الفْنا بفصل كامل (الفصل الأخير) عنونه بـ”قراءة لفضاء جامع الفنا”. في هذا الفصل دوّن غويتيسولو، بأسلوبه المبتكر الأنيق، انطباعاته وتأملاته عن الساحة. كما أن روايته العجيبة “الأربعينية” (أو “برزخ”) اتخذت من ساحة جامع الفنا نواة مركزية لوقائعها وشخوصها. وهذا العمل تحديدا كشف مدى تعمق غويتيسولو في معرفة وفهم التصوف الإسلامي.
أقام غويتيسولو في حي القنارية، غير بعيد عن الساحة التي ارتبط بها إلى درجة أنه وصف نفسه بعبارة “أنا وْلد جامع الفْنا”، التي حملت على امتداد أجيال وأجيال مراكشية (وفي المغرب عموما) معنى قدحياً يحيل على كون من يوصف بها متشردا أو “قليل التربية”. وبين مقر سكناه (رياض في حي القنّارية) والساحة ومقهى فرنسا (كان يجلس سابقا في مقهى يحمل اسم “ماطيش”، قبل أن تتحول إلى متاجر) واصل غويتيسولو رحلة الكتابة والإبداع، مستمداً من سحر المكان طاقة تساعده على التحرر من صدمات الماضي وعلى التعايش مع إكراهات الحاضر ومطبّاته.
لعب غويتيسولو، إلى جانب مثقفين ومهتمين آخرين، دورا هاما في انتزاع الاعتراف الأممي بالساحة الأشهر في العالَم كتراث شفهي ولامادي للإنسانية. فبفضل كتابات غويتيسولو عن جامع الفنا تحديدا دخل المغرب سجل التراث الشفهي واللامادي للإنسانية. في روايته “مقبرة” (1980) خصص غويتيسولو الفصل الأخير من هذا العمل الشهير للساحة تحت عنوان “قراءة لفضاء جامع الفنا”، مدونا فيه انطباعاته وتأملاته حول الساحة. وحين حرّر مقالته “جامع الفنا تراث شفوي للإنسانية” ونشرها في الأسبوعية الفرنسية “لوموند ديبلوماتيك” اطّلع عليها كوتشيرو ماتسورا، المدير العام لـ”يونسكو” آنذاك، والذي دعا (في 1997) إلى إنشاء لجنة جمعت مثقفين ومتتبّعين لشؤون الثقافة والتراث من عدة دول. وفي مارس 2002 حازت الساحة على الاعتراف بها “تراثاً شفهيا ولاماديا للإنسانية”؛ اعتراف أعاد للساحة اعتبارها وإشعاعها الثقافي والفنّي كمحطّة توقّف إلزامية لزوار مراكش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *