إعداد: إلياس زهدي

ح. 26

داش آكل

صادق هدايت (1903 -1951)

 

يعرف أهل شيراز جميعا أن داش آكل وكاكا رستم لا يطيق أحدهما رؤية الآخر. ذات يوم، كان داش آكل يجلس مقرفصا على صفة مقهى ميلين، حيث ملتقاه القديم. كان قد وضع القفص، الذي ألقى عليه ملاءة قرمزية، إلى جانبه وراح يدير، برأس إصبعه، الثلج في طاس الماء. وفجأة، دخل كاكا رستم من الباب. ألقى عليه نظرة احتقار ومضى، ويده لا تزال ترفع حاشية شاله، وجلس على الضفة المقابلة. التفت نحو صبي المقهى وقال:
-يا يا حبيبي، هات شايا.

أرسل داش آكل نظرة ذات مغزى صوب الصبي، جعلته يتعامل مع طلب كاكا كأنه لم يسمعه. كان يُخرج الأقداح من الطاس البرونزي ويغطسها في دلو الماء ثم يجففها، واحدا بعد الآخر، ببطء شديد. ومن مسحه زجاج القدح بالمنشفة كان يُسمع صوت احتكاك.
غضب كاكا رستم من هذا الإهمال وصاح مرة أخرى:
-أأ.. أأنت أطرش؟ معـ..معك!
نظر الصبي القهوجي نظرة متردّدة إلى داش آكل، فقال كاكا رستم من بين أسنانه:
-هه هو.. هؤلاء المتعنترون، لو كانوا رجالاً! ليأتوا الليلة ويمـ..يمتحنوا قوتهم!
ضحك داش آكل، الذي كان لا يزال يدير الثلج في الطاسة ويعاين الموقف متلصصا، ضحكة جريئة. لمع صفّ من الأسنان البيض المرصوصة من تحت شاربه، المصبوغ بالحناء، وقال:
-عديمو الغيرة يقرؤون الأراجيز. سيُعلم حينئذ من هو رستم صولت وأفندي بيزي.
وضحك الجميع، لا بسبب تلعثم لسان كاكا رستم، فهم كانوا يعرفون ذلك، ولكن داش آكل كان مشهورا كالثور ذي الغرّة، ولم يكن هناك فتوات كثيرون لم يوذقوا ضرباته وصفعاته، خصوصا وقد شرب، كما دأبه في كل ليلة، زجاجة عرق مغلي جيدا في بيت الملا إسحق اليهودي ويقف عند رأس محلة “سرزدك”. أمر كاكا رستم بسيط بالنسبة إليه، حتى جده لو جاء لكان رفع راية الاستسلام.

كان كاكا أيضا يعرف أنه ليس ندا لداش آكل ولن يصير يوما، لأنه أصيب على يده مرتين وكان قد جلس جثا فوق صدره ثلاث مرات أو أربعا. كان تعيس الحظ كاكا رستم قد رأى الميدان خاليا قبل بضع ليال فراح يثير النقع والغبار. وصل داش آكل مثل قدَر ونعته بنعوت هازئة. كان قال له:
يا كاكا ليس رجُلك في البيت. معلوم أنك دخّنت “بست” فور، فأثملك جيدا. أتعرف ماذا؟ دع مظاهر عدم الغيرة، مظاهر الدونية هذه، لقد ادٌعيت الفَتْوَنة أيضا، أفلا تخجل من نفسك؟ هذا أيضا نوع من الشحاذة جعلته حرفة لك. أتقطع الطريق على الناس في كل ليلة من ليالي الله؟ قسما بالولي يوريا لو أسأت التصرف في حالة سكر مرة أخرى لأحرقنّ شاربَك، بحدّ هذه القمة لأشطرنّك شطرَين.
وضع كاكا رستم يديه بعد ذلك على ظهره ومضى. ولكنه حمل ضغينة على داش آكل في قلبه وراح يبحث عن ذريعة كي يثأر منه.

في الطرف الآخر، كان أهل شيراز جميعهم يحبون داش آكل، لأنه في الوقت الذي كان يحرّم محلة سرزدك على الأغيار، لم يكن له شأن بالنسوة والأطفال، بل على العكس كان يعامل الناس برقة وعطف، ولو أن قليلَ حظ كان يعاكس امرأة أو يحاول فرض شيء على أحد، فإنه ما كان لينجو من يد داش آكل. وكثيرا ما شوهد داش آكل يساعد الناس، يعطيهم. وحين يكون مزاجه رائقا قد يوصل حتى أحمالهم إلى بيوتهم. لكن لم يكن يسمح بأن يرى شخصا آخر أعلى منه، خاصة كاكا رستم، الذي يدخن يوميا ثلاثة قراريط أفيون ويقوم بألف نوع من الحيل.

كان كاكا رستم قد جلس، بفعل هذه الإهانة التي لحقته في المقهى، مثل سمّ أفعى، يغطي شاربه، ولو أن أحدا طعنه بسكين ما كان دمه ليسيل. بعد بضع دقائق، حين خفتَ صخب الضحك هدأ الجميع إلا صبي المقهى، الذي وضع يده -بلونه المرهق وقميصه عديم الياقة وطاقية النوم وسراويل الأطلس- على فؤاده وراح يتلوى من ضغط الضحكة فيجعل أغلب الباقي يضحكون لضحكه.
فقدَ كاكا رستم أعصابه. مد يده فرفع وعاء السكر البلوري ورمى به الصبي. ولكن وعاء السكر اصطفق بالسماور فانطرح الأخير من فوق الرفّ مع وعاء الشاي وكسر بضعة أقداح. قام كاكا رستم وغادر المقهى بوجه منفعل.
تفحّص الصبي، باضطراب، السماور وقال:
-كان رستم وطقم أسلحة، وكنا نحن ولا شيء غير هذا السماور القراضة.
قال ذلك بنبرة مهمومة، ولكنْ لأنه كنّى بها عن رستم فقد ارتفعت الضحكات بشدة أكبر من السابق. ومن ضغط قهره هجم القهوجي على صبيه، لكن داش آكل مد يده، مبتسما، فأخرج من جيبه كيس نقود وألقى به في وسط المحل.
رفع القهوجي الكيس، وزنه وابتسم. وفي هذه الأثناء دخل المقهى مرتبكاً رجل بقميص مخملي وسروال فضفاض وطاقية من لبد. ألقى نظرة حوله ومضى إلى أمام داش آكل، ألقى عليه التحية وقال:
-لقد مات الحاج صمد.
رفع داش آكل رأسه وقال:
-ليرحمه الله.
-أفلا تدري بأنه أوصى؟
ـ أنا لست آكلَ موتى، اذهب وخبِّر أكلَة الموتى.
ـ لكنه جعلك وكيله ووصيَه…

كأن الكلمات طيّرت وسَن داش آكل. ألقى مجددا نظرة عليه، من رأسه حتى قدمه، مد يده على جبينه، فاندفعت طاقيته، بيضية الهيئة، إلى وراء وظهر جبينه ذو اللونين. كان نصفه قد احترق بفعل أشعة الشمس وصار بنّياً وبقي نصفه الثاني، الذي كان تحت الطاقية، أبيض. ثم هز رأسه، وأخرج جبقه المشغول مبسمه بشغل الخاتم ووضع في رأسه، بهدوء، تبغاً جمعه من حوله بإبهامه، أرّثه ثم قال:
-رحم الله الحاج، لقد مات الآن، ولكنه لم يفعل حسنة، لقد أوقعنا في ورطة. طيب. اذهب أنت، وسألحق بك.

كان الشخص الذي دخل وكيلَ أعمال الحاج صمد، وقد خرج الآن بخطى طوال.
قطّب داش آكل. سحب من جبقه نفَسا بتفنن، ثم، كما لو طغى فجأة على جو المقهى، الملبد بالغيوم السوداء، ضحك وسرور. وبعد أن أفرغ داش آكل رماد جبقه قام فأودع القفص المزأبر في يد الصبي القهوجي وغادر المقهى.

عندما دخل داش آكل برّاني الحاج صمد، كانوا قد رفعوا مجلس العزاء. كان بضعة أشخاص من القراء وموزّعي أجزاء القرآن يتنازعون على المال. بعد أن تأخر بضع دقائق عند الحوض، أدخلوه إلى غرفة كبيرة كانت أراسيّها تنفتح على الخارج. جاءت السيدة إلى ما وراء الستارة، وبعد السلام والمجاملات المألوفة، جلس داش آكل على الحشية وقال:
-لتسلمي أنت أيتها السيدة، ليحفظ الله لك أبناءك.
قالت السيدة، بصوت مخنوق:
-في الليلة التي تدهورت فيها حال الحاج ذاتها، ذهبوا فجلبوا إمام الجمعة إلى عند رأسه، وقد جعلك الحاج، في حضور السادة جميعهم، وكيله ووصيه، لا بد أنك كنت تعرف الحاج من قبل؟
-لقد تعرفنا على بعض منذ خمس سنوات خلال رحلة إلى
كازرون.
-كان الحاج رحمه الله يقول دائما: لو كان ثمة رجل فهو فلان.
-سيدتي، إنني أحب حريتي أكثر من أي شيء، ولكنْ الآن وقد صرت مديناً لميت، قسماً بحد الشمس هذا إن لم أمت فسأُري الجميع.
ثم رأى، بعدما أدار رأسه رأى، من شق الستارة المقابلة، فتاة ملتهبة الوجه، لها عينان جذابتان سوداوان. لم يدم نظر أحدهما إلى عيني الآخر طويلا، لكنْ بدا له كما لو أن تلك الفتاة خجلت، فقد أسدلت الستارة وتراجعت. أكانت تلك الفتاة حسناء؟ ربما، ولكنّ عينيها الجذابتين فعلتا، على أي حال، فعلهما وغيّرتا حال داش آكل. طأطأ رأسه واحمرّ وجهه.

كانت هذه الفتاة مرجان، ابنة الحاج صمد، وقد جاءت من حب استطلاعها كي ترى داش آكل، نجم المدينة وقيّمهم.
انشغل داش آكل، منذ اليوم التالي، بتحري أعمال الحاج، فسجل -مع دلال خبير واثنين من فتيان المحلة وكاتب- كل الأمور بدقة وأعدّ لها لائحة. ووضع ما كان فائضا في المخزن. أقفل بابه وختمه وباع ما كان قابلا للبيع. أعطى سندات الأملاك فقُرئت له وتسلم طلباته وسدد ديونه. وتم تنفيذ كل هذه الأعمال في يومين وليلتين.

في الليلة الثالثة، كان داش آكل ذاهبا إلى بيته، متعبا مرهقا، من مفترق “سيد حاج غريب”، حين صادفه في الطريق إمام قلي، صانع الأقفال، وقال:
-منذ ليلتين وكاكا رستم ينتظرك.. كان يقول ليلة أمس إن فلاناً زرعنا حقا والتهى، أظنه نسي قوله..
مسح داش آكل شاربه بيد وقال:
-لا تهتم لأمره.
يتذكر داش آكل جيدا أن كاكا رستم قد توعده قبل ثلاثة أيام في مقهى الثلاثة أميال، ولكنه لمّا كان يعرف خصمه ويعرف أن كاكا رستم قد تواطأ مع إمام قلي كي يريقا ماء وجهه، فإنه لم يبال بكلامه. تابع طريقه ومضى. وفي الطريق كانت كل حواسه وفكره تتجه إلى مرجان. كلما حاول أن يبعد وجهها عن عينيه اشتد تجسّداً أمام ناظريه.
كان داش آكل رجلا في الخامسة والثلاثين، قويا ولكنْ سيءَ التركيب.. كان كل من يراه أول مرة يشمئز من مظهره، ولكنه إن جلس وستمع إلى حديثه في جلسة واحدة فإنه يفتنه بحكاياته التي يروي عن دوران حياته، التي كانت على ألسنة الجميع. وإذا ما تجاهل المرء الجروح المتداخلة التي أحدثتها “القمات” في وجهه، يصير لداش آكل هيأة محبّبة وجذابة: عينان زرقاوان بخضرة، حاجبان أسودان كثان، خدّان عريضان، أنف دقيق، لحية وشارب أسودان. ولكن الجروح خرّبت هيأته، فعلى خديه وجبينه كانت آثار جروح سيف التأمت على نحو سيء. فكان اللحم الأحمر يلمع من بين أخاديد وجهه، والأسوأ من ذلك كله أن أحدهم سحب حاشية عينه اليمنى إلى أسفل. كان أبوه واحدا من ملاّك فارس، وبعدما توفي انتهت كل تركته إلى ابنه الوحيد الفريد. ولكن داش آكل كان كريما، متلافا، لا يولي وسخ الدنيا قيمة، يقضي حياته برجولة وحرية وكرم وطيبة نفس. ولم يكن يبالي بشيء. كان يبذل كل ماله للمحرومين والمعوزين ويهبه لهم، أو يشرب عرقا جيدَ التقطير ويقف صارخاً في مفارق الطرق أو ينفق في مجالس الطرب على مجموعة من الأصدقاء صاروا طفيليين عليه.

تتلخص كل عيوبه ومحاسنه في هذه الحدود، ولكن ما كان يبدو محيرا أن موضوع العشق والغرام لم يتسلل إلى حياته حتى الآن. وعندما أقنعه رفاق، في مرات قليلة، وهيؤوا مجالس سرية كان يبتعد على الدوام. ولكنْ، منذ أن صار وكيل الحاج صمد ووصيه ورأى مرجان، وقع تغيير تام في حياته، فمن جهة كان يعُدّ نفسه مدينا للمتوفى وأنه صار تحت عبء المسؤولية. ومن جهة أخرى كان قد تولّه بمرجان. ولكن هذه المسؤولية كانت تضغط عليه أكثر من أي شيء آخر، هو الذي كان أوقع العبث في ماله وأحرق مقدارا من ثروته بسبب لا ةمبالاته. كان لا يفكر يوميا، منذ الصباح المبكر حين يصحو من نومه، إلا في تنمية أملاك الحاج. نقل زوجته وأطفاله إلى بيت أصغر وأجّر بيته الشخصي وجلب لأطفاله معلما خصوصيا وطرح ممتلكاته في التداول وانشغل هو، من الصباح حتى المساء، بمتعلقي الحاج وأملاكه.
منذ ذلك الحين وما تلاه، لم يعد لداش آكل شأن بتجوال الليل وتحريم المرور في المفترَقات. لم يعد له بأصدقائه اختلاط وتراجع اندفاعه السابق. ولكن جميع الفتوات والسائبين الذين كانوا ينافسونه جاءهم الدور فراحوا -بتحريض من الطفيليين الذين انقطعت أياديهم عن أموال الحاج- يتحدّون داش آكل وجعلوا من ذكره حديث المجالس والمقاهي. في مقهى “ياجنار”، كان الأغلبية يتداولون موضوع داش آكل، ويقال: أتقصد داش آكل؟ ليجمد حلقه، من يكون؟ حسنا ما انزوى، إنه يتمسح بمنزل الحاج، كأنما ينمسح به شيء منه… صار عندما يبلغ محلة سرزدك ينحشر ذيله بساقه ويمرّ.

وكان كاكا رستم يقول، بالعقدة التي كانت في فؤاده وبلكنته:
-شيخوخة وتظاهر!‍ صار صاحبنا عاشقا لابنة الحاج صمد، وضع خنجره في القراب! نثر ترابا في أعين الناس، بدعوى أنه صار وكيلَ الحاج، فقد شفط كل أملاكه.. الدنيا حظوظ‍!

لم يعد لحنّاء داش آكل لون عند أحد وما عادوا يفرمون له الكراث. حيثما كان له دخل تهامسوا في ما بينهم ويغمزون نحوه. كان داش آكل يسمع هذا الكلام من هنا ومن هناك عرَضا ولكنه يتجاهله ولا يبالي به، لأن عشق مرجان تغلغل في شرايينه وعروقه على نحو لم يعد يذكر معه غيرها أو يفكر في ما عداها.
في الليالي كان يشرب العرق، من اضطراب الفكر. ومن أجل تسلية نفسه اشترى ببغاء. كان يجلس أمام القفص ويناجي الببغاء بهمومه. لو أن داش آكل خطب مرجان فلا شك أن الأم كانت ستعطيه مرجان على راحتَي اليدين. ولكنه لم يكن يريد، من جهة أخرى، أن يصير أسير امرأة وأطفال، كان يريد أن يبقى حرا، على النحو الذي نشأ عليه. وعلاوة على ذلك، فقد فكر في نفسه في أنه إن تزوج البنت التي أودعت لديه فسيكون ذلك خيانة للخبز والملح. والأسوأ من ذلك كله أنه عندما كان ينظر إلى وجهه كل ليلة في المرآة كان يعاين جروح القمة الملتئمة وزاوية عينه المسحوبة إلى أدنى فيقول، بنبرة مبحوحة وبصوت عال:
-ربما لم تكن لتحبّني، لعلها تجد زوجا وسيما وشابا.. لا، هذا بعيد عن الرجولة.. إنها في الرابعة عشرة وأنا في الأربعين.. ولكن ماذا أفعل؟ هذا الحب يقتلني.. مرجان: لقد قتلتنِي.. لمن أقول؟ مرجان، قتلني حبك!
كان الدمع يتجمع في عينيه فيشرب العرق، كأسا بعد كأس. ثم ينام وقد أصابه الصداع في ما هو جالس. ولكنْ، عند منتصف الليل، عندما تنام مدينة شيراز، بأزقتها الملتفة الملتوية وبساتينها التي تشرح القلوب وأشربتها الأرجوانية، عندما تتغامز النجوم هادئة وعلى نحو مرموز، فوق السماء التي كالقار. عندما تتنفس مرجان، بخديها الزهريين، في فراشها بهدوء ويمر طيفها نهارا أمام عينيه، عندئذ كان داش آكل الحقيقي، داش آكل الطبيعي، بكل أحاسيسه وأهوائه وهوسه، يخرج من دون حرج من القشرة التي لفّتها حوله آداب المجتمع وأعرافه، من الأفكار التي تم تلقينها له منذ الطفولة. ولكنه عندما كان يفزّ من النوم.. كان يشتم نفسه ويلعن الحياة ويدور في الغرفة كالمجنون. يكلم نفسه همسا، ثم يقضي بقية النهار -لكي يقتل فكرة الحب في داخله- في السعي وراء أشغال الحاج والاهتمام بها.

ومرت سبع سنوات على هذا المنوال. لم يقصّر فيها داش آكل مقدار ذرة في العناية والإيثار في ما يتعلق بزوجة الحاج وأطفاله. حين يمرض أحد أطفال الحاج، كان يقضي الليل عنده، مثل أم حانية، وقد تعلق بهم أي تعلق. ولكن حبه لمرجان كان شيئاً آخر، وربما كان عشق مرجان هذا هو ما جعله هادئا وأليفا إلى هذا الحد.
وخلال هذه المدة، كان جميع أطفال الحاج صمد قد شبّوا عن الطوق. ولكنْ، ما كان لا ينبغي أن يقع وقع وطرأ حادث مهم: لقد وُجد عريس لمرجان، وأي عريس! كان أكبر من داش آكل وأقبح منه. لم يبد على وجه داش آكل في هذه الواقعة عبوس أو تقطيب، وإنما على العكس انتهى بمنتهى السرور بتهيئة الجهاز وهيأ لعقد القران حفلا لائقا. نقل امرأة الحاج وأطفاله مرة أخرى إلى منزلهم الخاص وعين لاستقبال الضيوف الرجال الغرفةَ الكبيرة ذات الأرسي. كان جميع رؤوس مدينة شيراز: التجار والكبار، مدعوين إلى هذا الحفل.

وفي الساعة الخامسة في عصر ذلك اليوم، عندما كان الضيوف يجلسون متلاصقين في الغرفة، متربعين على سجاجيد رفيعة القيمة، وقد صُفت أمامهم أطباق الحلوى والفواكه، دخل داش آكل بوضعه الفتواتيَ القديم، شعر نافر ممشط، صديري مخطط، حمّالة سيف، شال معقود الطرف، سروال من الساتان الأسود، ملكي شغل “آباده” وطاقية جديدة. ودخل معه أيضا ثلاثة أشخاص يحملون الدفاتر والكشاكيل. حدق فيه الضيوف جميعا، من رأسه حتى قدمه. اتجه داش آكل، بخطى واسعة نحو إمام الجمعة، وقف قربه وقال:
-يا حضرة الإمام، لقد أوصى الحاج، رحمه الله، فألقى بنا سبع سنوات عسيرات في ورطة. إن أصغر أبنائه، الذي كان في الخامسة، صار له الآن اثنتا عشرة سنة. وها هو أيضا حساب وكتاب أموال الحاج.
وأشار إلى الأشخاص الثلاثة الذين كانوا خلفه.
-وكل ما جرى صرفه حتى اليوم، مع نفقات الليلة، تم صرفه من جيبي الخاص. والآن: نحن وشأننا، وهؤلاء أيضا وشأنهم!

عندما وصل إلى هذا الحد، خنقته الدموع. ثم، دون أن يضيف شيئا بعد أو ينتظر جواباً، أحنى رأسه وخرج دامع العينين.

في الزقاق تنفّسَ الصعداء. شعر بأنه تحرر وبأن عبء المسؤولية أزيح عن كاهله، ولكنّ فؤاده كان مكسورا وجريحا. كان يمشي خطى طويلة غير مبالية. وفيما هو يمر ميّز بيت الملا إسحاق، مقطر العرق اليهودي.
ودون تأخير، دخل، عن طريق سلالم آجرية مرطوبة، إلى باحة عتيقة مدخنة تضم في داخلها غرفا صغيرة قذرة لها نوافذ ثقبية تشبه قفير نحل، وعلى حوضها أشنات خضراء متشابكة. كانت رائحة محمّضة، رائحة ريش وسراديب عتيقة، تملأ الهواء. تقدم الملا إسحاق، بطاقية ليل مشحمة ولحية تيسية وعينين طمّاعتين، وهو يصطنع ضحكة.
قال داش آكل، في حالة شرود:
-وحق زوج شواربك، هات زجاجة جيدة نطرّي بها حلقومنا.
هز الملا إسحاق رأسه، هبط سلالم القبو وصعد بعد بضع دقائق حاملا زجاجة، أخذ داش آكل الزجاجة من يده. ضرب عنقها بحافة الجدار فقطع رأسها، ثم شرب نصفها. تجمّع الدمع في عينيه. حبس سعاله ومسح فمه بظاهر كفه. كان ابن الملا إسحاق -الذي كان طفلاً مصفرّا قذِرا- ينظر إلى داش آكل ببطن منفوخ وفم فاغر ومخاط يتدلى فوق شفتيه. دفع داش آكل أصبعه تحت غطاء المملحة التي كانت على رف الباحة.
تقدم الملا إسحاق، ضرب على كتف داش آكل وقال من طرف لسانه:
-مازة الفتى التراب.
ثم مد يده تحت قماش ملابسه وقال:
-ما هذا الذي ترتدي؟ لقد بطل هذا الصديري الآن. حين تشعر بأنك لم تعد تريده سأشتريه منك بسعر جيد.
ابتسم داش آكل بسمة كئيبة. أخرج من جيبه مالا ووضعه في كفه وغادر البيت. كان الوقت قرب المغرب. كان جسده ساخنا وفكره مضطربا ورأسه يوجعه. كانت الأزقة لا تزال، على أثر مطر بعد الظهر، رطبة ورائحة التبن -طين والقداح تلفّ في الهواء.

تجسّمَ وجه مرجان، خداها الأحمران، عيناها السوداوان وأهدابها الطويلة، مع ذؤابة الخصلة التي تساقطت على جبينها، غامضا موحيا أمام عيني داش آكل. تذكر حياته المنصرمة. راحت ذكرياته السابقة تمر واحدة واحدة أمام ناظريه. تذكّرَ الجولات التي كان يقوم بها مع أصدقائه إلى “قبر سعدي و”بابا كوهي”. فكان يبتسم حينا ويقطب أحيانا. ولكنْ ما كان حقيقة مسلَّماً بها بالنسبة إليه أنه كان يخاف بيته، كان ذلك الوضع غير قابل التحمل بالنسبة إليه، كما لو أن قلبه اقتلع. كان يريد أن يذهب ويبتعد. فكر في أن يشرب الليلة عرقا مرة أخرى ويناجي الببغاء، لقد صارت الحياة كلها بالنسبة إليه تافهة، جوفاء، لا معنى لها. وفي هذه الأثناء تذكر شعرا فراح يترنم به سأما:
أتحسر على سهرة السجناء،
إذ نُقْل مجلسهم حبات السلسلة…
وتذكر لحناً آخر، فغنى بصوت أعلى:
جن قلبي، أيها العقلاء، هاتوا سلسلة
فـلا تدبيـرَ للمجنون غيـرُ القيـد!
غنى هذا الشعر بلحن اليأس والغمّ والغصة. وكما لو نفد صبره أو أن فكره كان في مكان آخر، لزم الصمت.

كان الظلام قد حل عندما وصل داش آكل محلة سرزدك.
كان هنا الميدان إياه الذي كان في السابق -عندما كان له خلق وهوى- يمنعه على الناس، فلم يكن أحد ليجرؤ على أن يتقدم فيه.
ذهب، بدون إرادة، وجلس على صفّ حجري أمام أحد البيوت. أخرج جبقه وعمرّه، وراح يدخن بتثاقل. تهيأ له أن المكان صار أكثر خرابا ممّا كان في السابق. تغير الناس في عينيه، كما انكسر هو وتغيرَ. كانت عيناه تتغشيان ورأسه يؤلمه. فجأة، ظهر ظلّ معتم كان يتجه نحوه من بعيد، وفيما هو يتقدم قال:
-الـ.. الـ.. فتى يعرف الفتى في الـ.. في الـ.. ليلة الظلماء.
عرف داش آكل في القادم كاكا رستم. قام ووضع يده في نطاقه وبصق على الأرض وقال:
-إي، وأرواح أبيك عديم الغيرة، تصورتَ أنك فتى ولكنك -ومماتك- لم تَبُل على أرض صلبة.
أطلق كاكا رستم ضحكة ساخرة، تقدم وقال:
-مذ.. مذ.. منذ زمن لم.. لم.. تعد تظهر في.. في هذه الأنحاء! الـ.. الليلة في بيت الـ.. الـ.. الحاج عُقد قران، أفلم.. يسـ.. يسمحوا لك..
قاطعه داش:
-قد عرفك الله فأعطاك نصف لسان، وسآخذ أنا الليلة نصفه الآخر.
مد يده فسحب قمّته. وتناول كا كارستم أيضا، كما رستم الحمام، قمته بيده. دق داش آكل رأس قمته بالأرض. وقف واضعا يده على صدره وقال:
-أريد الآن فتى يقتلع هذه القمة من الأرض!
هجم عليه كاكا رستم فجأة، ولكنّ داش آكل ضربه على معصمه ضربة جعلت القمة تطير من يده. توقف عدد من المارة على صوتهما، ولكن لم تؤات أحدا الشجاعة لأن يتقدم أو يتوسط. قال داش آكل، باسما:
-رح، رح يا أخ، ولكنْ شريطة أن تمسكها أشدّ الآن، لأنني أريد الليلة أن نصفّي حساباتنا!
تقدم كاكا رستم بقبضتين مشدودتين فتماسكا. بقيا يتدحرجان على الأرض مدة نصف ساعة، والعرق يتصبب من رأسيهما ووجهيهما، دون أن يحالف النصر أيا منهما.
في خضمّ النزاع، اصطدم رأس داش آكل بشدة بحجارة في الطريق فأوشك أن يغمى عليه. كما أن كاكا رستم، ورغم أنه كان يضرب بنية القتل، فإن طاقته على المقاومة كانت قد نفدت. ولكن عينه في هذه اللحظة وقعت على قمة داش آكل، التي صارت في متناوله. وبكل قوته وقدرته سحبها من الأرض وغرزها في خاصرة داش آكل. وتوقّفت ذراعاهما معا عن الحركة.

ركض المتفرجون قدما ورفعوا داش آكل بصعوبة عن الأرض، وكانت قطرات دم من خاصرته تخضّبها. وضع يده على الجرح. جرجر نفسه بضع خطوات، إلى جنب الجدار. ثم رفعوه وحملوه على الأيدي فنقلوه إلى بيته.

في صباح الغد، لما بلغ خبر جرح داش آكل بيت الحاج صمد، ذهب ولي خان، ابنه الأكبر، يسأل عن حاله. وصل إلى فراش داش آكل. وجده ساقطا على الفراش، شاحب اللون، وقد خرج زبد دامٍ من فمه وقد غامت عيناه، كان يتنفس بصعوبة. وكما لو أنه عرفه قال، بصوت نصف مكتوم وراعش:
-في الدنيا.. لم يكن عندي غير هذا الببغاء.. وحياتك.. وحياة الببغاء.. أودِعه عند..
ولزم الصّمت مجددا. أخرج ولي خان منديل حرير ومسح دمع عينيه. فقدَ داش آكل الوعي، ثم مات بعد ساعة. وبكى لموته أهل شيراز جميعا.

رفع ولي خان قفص الببغاء فأخذه إلى البيت. وحدث، في عصر اليوم ذاته، أن وضعت مرجان قفص الببغاء أمامها وراحت تتأمل -ذاهلة- تلوين الريش والجناح، المنقار المقوس والعينين المستديرتين الغائمتين للببغاء. فجأة، قال الببغاء بنغمة فتيان، بنغمة مشروخة:

-مرجان، يا مرجان.. لقد قتلتِني.. لمن أقول.. يا مرجان.. قتلني حبّك”.
فجرى الدمع من عينَي مرجان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *