بعد سنوات من الانتظار تسربت بشكل غير مألوف النسخة الرسمية لمشروع مرسوم رقم 2.23.545 بشأن النظام الأساسي الخاص بهيئة الأساتذة الباحثين بالتعليم العالي، في وقت حساس ودقيق تم اختياره بعناية كبيرة وبحسابات قد تكون ضيقة تؤكد ما ذهبنا إليه قبلاً إذ اعتبرنا أن الوزارة ترهن هذا المشروع بمشروع الإصلاح البيداغوجي.
فبين اثنين واثنين تم الافراج عن المشروع، الاثنين الماضي المساءلة الشهرية للسيد رئيس الحكومة حول موضوع التعليم العالي والإثنين بعده الدورة الاستثنائية للمجلس الاعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لإبداء الرأي حول موضوع ضوابط الدفتر البيداغوجية ومرسوم الشهادات.
وبعيدًا عن أي تأويل أو إصدار أحكام جاهزة، وبغية المساهمة الموضوعية في النقاش الدائر حول الموضوع، ومن منطلق الاهتمام بقضايا المنظومة بعيدًا عن الطرح النقابي لأن الموضوع سيناقش نقابيًا في الأجهزة المخول لها ذلك محليًا وجهوياً ووطنياً وسيكون محط تقييم موضوعي خلال المؤتمر القادم – قلت بعيدًا عن كل ذلك – ونحن نذكر بأن التعليم العالي المغربي عرف نساؤه ورجاله 4 انظمة اساسية وهذا خامسها:
– الأول سنة 1959 في شكل مرسوم لكل فئة أستاذ التعليم العالي و أستاذ محاضر و مساعد الكلية.
– الثاني سنة 1970 و الذي احتفظ بنفس الهيئات.
– الثالث سنة 1975 و يضم أساتذة التعليم العالي و الأستاذة المحاضرين و الأساتذة المساعدين و المساعدين.
– الرابع سنة 1997 و يشمل أساتذة التعليم العالي و الأساتذة المؤهلين و أساتذة التعليم العالي المساعدين. وتم وضع مرحلة انتقالية للأستاذ المساعد والمساعد في طور الانقراض.
واليوم ونحن نطلع على المشروع المنتظر نسجل الملاحظات التالية وهي في شكل أسئلة نوجهها للمشرع:
أولا ً: ما موجب المادة 26 من المشروع بخصوص الأساتذة المساعدين والمساعدين من حيث وضعياتهم والتعويضات المخولة لهم؟ هل لم يستحضر المشرع محضر الاتفاق الذي تم بين النقابة الوطنية للتعليم العالي و قطاعات التعليم العالي و المالية والوظيفة العمومية الموقع يوم 29 ابريل 2011 والذي تضمن مادة بمقتضاها “حل مشكل المساعدين الحاصلين على دبلوم الدراسات العليا و ذلك بتفريغهم في اطار أستاذ مساعد ثم أستاذ التعليم العالي مساعد ” و بمقتضى ذاك الاتفاق تم إعفاء حملة د.د.ع او السلك الثالث من شرط الحصول على شهادة الدكتوراة و هو ما تم بالفعل و ترجم إلى نص تشريعي ضمن المرسوم كما هو مبين في المادة 33 من المرسوم حسب ما تم تغييره و تتميمه و ما نصت عليه المادة 37 من المرسوم حيث وضع هذان الاطاران في طريق الانقراض.
وما زلت أتذكر حالتين بجامعة القاضي عياض وحالة بجامعة الحسن الثاني وحالات أخرى سويت جميعها. فلا وجود لأي حالة اليوم لإطار أستاذ مساعد وحتى المساعد وإن وجدت إحدى الحالات وهو أمر مستبعد فإما أن الادارة لم تقم بواجبها في تطبيق مقتضيات الاتفاق والمرسوم واما أن توظيفات جديدة تمت وهو أمر مستحيل.
ألهاته الدرجة صارت ذاكرة القطاع الوصي “مثقوبة «؟
ثانيا : نتحدث كثيرًا عن تقاعد كفاءات عالية و نصفها بالخسارة الكبرى، وفي المقابل لم يتم التنصيص في هذا المشروع على إحداث إطار أستاذ فخري كما هو معمول به في مجموعة من الدول المتطور تعليمها العالي و التي تحتفظ بأساتذتها حتى يقرروا هم التوقف و الذي غالبا ما يكون لأسباب صحية ، ونضرب مثالاً بعالم اللسانيات الأمريكي نوام تشومسكي الذي فاق سنه 85 سنة و ما زال يحتفظ بمكتبه بالامايتي ( M.I.T) ، عوض أن نترك مجموعة من الجامعات تقرر إسناد هاته الصفة لبعض اساتذتها و بعض الأساتذة يسندون لأنفسهم هاته الصفة ، و الجهتان معاً تفعل ذلك دون سند قانوني و لا امتيازات تذكر .
فلماذا هذا الجحود، ولم هاته ” الدراما نبكي ” على تقاعد الكفاءات ونتجاهلها في التشريع.
ثالثا: ونحن نتحدث عن نقص كبير في التأطير للأسباب المعلومة لدى الجميع، ونتحدث عن جلب كفاءات الخارج وعن جيل جديد من الطلبة الدكاترة الباحثين، لماذا لم يتم التنصيص على هاته الفئة في إحدى مواد المرسوم حتى يكون ذلك الذكر مؤطراً قانوناً ومحفزاً لهم ومشجعاً على العطاء وبذل المجهودات المطلوبة وأكثر دون أن يكون لهم وضع إداري قار والذي سيحصلون عليه بعد الاستجابة لمقتضيات التوظيف، وهكذا ستربح المنظومة مرتين.
رابعا: كيف يفسر المشرع انتقال الرقم الاستدلالي للأستاذ الباحث في بداية مشواره من 336 الى 509 أي من نظام 75 إلى نظام 97 بما يحمله الرقم الاستدلالي من تعويضات يساوي كل رقم منها مقداراً مالياً يحتسب في الأجور الشهرية، ويعتمد في احتساب التقاعد واحتفاظ المشرع بنفس الرقم الاستدلالي وهو ينتقل من نظام 97 الى نظام 2023 أي 509 دون تغيير يذكر.
خامسا: كيف قبل المشرع أن يبدأ الأستاذ الباحث ( 8 سنوات على الاقل بعد الباكالوريا ) بالرقم الاستدلالي 509 وهو نفس الرقم الاستدلالي الذي خوله المشرع للأطباء ( 6 سنوات بعد الباكالوريا ) ويقارب الرقم الاستدلالي الخاص بفئة المهندسين ( 5 سنوات بعد الباكالوريا ) وهؤلاء جميعهم يفترض أنهم طلاب أساتذة التعليم العالي .
سادسا: هل يعتقد المشرع أن البحث عن كفاءات الخارج مدخله الأساس هو النظام الأساسي الذي يسمح لهم باجتياز مباراة الالتحاق بالتعليم العالي في سن أقصاه 55 سنة كما هو مبين في المشروع، لا نعتقد ذلك، لأن كفاءات الخارج الحقيقية والعالمة تبحث عن بنيات الاشتغال والبحث العلمي بشروطه وإمكاناته وظروفه وأوساطه وهي لعمري غير متوفرة في أغلب جامعاتنا المغربية مع كل أسف.
ولنا أمثلة كثيرة نذكر منها مثالًا لواقعة أستاذ باحث مغربي من جامعة انجليزية جاء للمغرب لتنفيذ مقتضيات اتفاقية دولية مع جامعة محمد الخامس بالرباط قبل شهرين من الآن و ظل “يتنقل ” بين شوارع الرباط دون أن يجد مخاطبًا ولا شروط الاشتغال فكتب رسالةً بمثابة قرار الاستقالة من هاته المهمة و عاد أدراجه إلى انجلترا …
و عليه أرجو أن لا ” نبيع الوهم ” لشبابنا و مواطنينا و مسؤولينا ، إذ يجب أولاً توفير كل الظروف المطلوبة و بعدها لننفتح فيكون المستقبل واعدًا للجميع .
سابعا: ألم يكن من المستحب – و نحن نتفاضل بالحديث ايجاباً عن جيل يغادر التعليم العالي بسبب بلوغه سن التقاعد و هو الجيل الذي كان له الفضل الكبير في تكوين و تأطير جيل الشباب الحالي و جيل من سيغادر خلال السنوات القليلة القادمة – ان يقرر المشرع تاريخ المفعول المادي و النظامي بأثر رجعي يبتدئ من سنة 2018 مثلًا أو بعدها أو قبلها بقليل تكريماً لهذا الجيل و اعترافاً له بما قدمه من خدمات جليلة لجامعاتنا في ظروف صعبة ليست كظروف اليوم.
ثامناً: ما هي فلسفة وخلفية أن يساوي المشرع بين الأستاذ المحاضر و الأستاذ المحاضر المؤهل و هما اطاران مستقلان في المهام و عدد ساعات العمل و يميز بينهما في الأرقام الاستدلالية و الأجور؟ .
تاسعًا: في زمن الخصاص المهول في عمليات التأطير وزمن البدء في الإصلاح البيداغوجي المرتقب يلجأ المشرع إلى خصم 4 ساعات أسبوعية من الإطار الأول دون تعويض ذاك الخصاص بالموارد البشرية المطلوبة. فنسبة التأطير بلغت اليوم أكثر من 120 % أي أستاذ لكل 120 طالب وخلال الدخول المقبل ستقارب النسبة 150 % في المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح.
وأخيراً وليس آخرا ً لا بد من التذكير بأن كل نص تشريعي له روح وفلسفة فالنصوص الاربعة الخاصة بهيئة الاساتذة الباحثين لها فلسفة وروح لمسناها ونحن نشرحها ونفاوض بشأن بعضها خلال السنوات الماضية.
والسؤال المطروح ما هي الفلسفة التي قام عليها مشروع المرسوم المنتظر وكيف هي روحه؟ لأننا أحسسنا بأنه تجميع لما لا يجمع وحذف ما لم يكن واجبا حذفه وإضافة ما لا يجب إضافته وتلصيق فقرة من هنا وفقرات من هناك، فكان نص حقيقةً بدون روح ولا فلسفة، رغم ان الحكومة قدمت فيه مجهودًا مالياً محترماً، لكن المشرع أغفل فئات أخرى فكان غير منصف لها، وهو الأمر الذي قد يتسبب في عدم استقرار المنظومة، وعدم الانطلاقة الجيدة للإصلاح المقرر تنزيله شتنبر المقبل دون التوفر على الحد الادنى للإمكانات المطلوبة ودون تقديم ضمانات ذلك.
وختاماً نؤكد أن الكلام الجميل والجذاب يجب أن يترجم بالأفعال والمواقف والقرارات الأكثر جمالًا واجتذاباً.
*الدكتور محمد الدرويش/ رئيس المرصد الوطني لمنظومة التربية والتكوين