لا تقل الكتابات الأخرى للكاتب أحمد شراك أهمية عن دراسته للغرافيتيا، فهي تحقق للكاتب نوعا من التراكم الثقافي المهم حول المسألة الثقافية، التي ما زال يشتغل عليها إلى الآن.

*سعيدة شريف

تعرفت على الأستاذ والكاتب أحمد شراك في أحد مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب التي نظمت بالمحمدية في بداية تسعينيات القرن الماضي، وأنا أتلمس طريق الصحافة الثقافية بالمغرب، التي ولجتها من بوابة كلية الآداب والعلوم الإنسانية. أذكر أن الأستاذ أحمد شراك لم يبخل علي ساعتها بأي معلومة، وأنه أدخلني في أجواء المؤتمر، الذي انتدبت لتغطيته من قبل مجلة “الملاحظ الثقافي” التي كانت تصدر ساعتها عن وزارة الثقافة المغربية.

ومنذ ذلك التاريخ البعيد/ القريب، توطدت علاقتي بالأستاذ والكاتب والباحث المتمرس أحمد شراك كغيره من المثقفين المغاربة الغيورين على الثقافة في هذا البلد.

 تعرفت عليه عن قرب واطلعت على همومه وانشغالاته الفكرية والأدبية التي لم يتوان في التصريح بها لي في حوارات أجريتها معه في مختلف الصحف الوطنية والعربية التي اشتغلت بها وعلى رأسها صحيفة “الشرق الأوسط”، وأسبوعية “الجريدة الأخرى”، و”الصحيفة”، و”الصحراء المغربية” و”الأخبار”، و”العرب” القطرية، و”البيان” الإماراتية، وغيرها من الصحف والمجلات.

 لم تكن أسئلتي البديهية ولا المستفزة في بعض الأحيان لتقلق الأستاذ أحمد شراك، بل كان يتقبلها بصدر رحب، ويجيب عنها بأريحية كبيرة، ولا ينزعج من اتصالاتي الكثيرة له لما كان عضوا في المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب في المؤتمر 16 و17.

 لا يتردد في توجيه النقد لهذه المؤسسة الثقافية العريقة من الداخل، كما لم يبخل في المساهمة لإخراجها من النفق المسدود، الذي وصلت إليه، كل ذلك غيرة على الثقافة والمثقفين، وصورة هذا البلد الثقافية، التي بدأت تهتز مؤسساتيا، وتنعكس سلبا على المشهد الثقافي المغربي بالداخل والخارج.

إذا كان للأستاذ أحمد شراك فضل على طلبته في التكوين والمتابعة والنصح، فإن له فضلا أيضا على مجموعة من الإعلاميين، وأنا كصحافية مغربية متخصصة في الشأن الثقافي أعترف للأستاذ أحمد شراك بالفضل في مسيرتي الإعلامية، ومتابعته لعملي وتوجيهه لي في مختلف القضايا التي أثيرها في الصحافة الثقافية بالمغرب.

كنت أول من يتسلم إصداراته الجديدة، ويكتب عنها في الصحافة الوطنية، بدءا من كتاباته عن “الثقافة والسياسة” 2000، و”مسالك القراءة” 2001، و”سوسيولوجيا التراكم الثقافي” 2005، و”فسحة المثقف”،  و”الثقافة و جواراتها”، إضافة إلى كتاباته السوسيولوجية المشتركة مع باحثين آخرين، كعبد الفتاح الزين في كتاب “بيبليوغرافيا السوسيولوجيا المغربية”.

 الى جانب كتاباته الخاصة كـ”الكتاب على الجدران المدرسية: مقدمات في سوسيولوجيا الهامش والشباب والمنع والكتابة” 2009، و”الهدر المدرسي والمسألة الثقافية: تحقيق سوسيولوجي حول جهة فاس بولمان” 2010، وسيرة الجغرافيات الذاتية “معارج العبور” 2010، إلى كتاب “أحمد شراك: الكتابة والهامش”، الذي خصته به مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس.

انه الكتاب الذي أهداه لي للإطلاع على أحمد شراك بلسان آخرين، قائلا:”أتساءل هل يحق لي أن أوقع لك نسخة لا أحضر فيها ككاتب، جدل حقيقي قد نطرحه عن نظرية الكتابة”.

هذا هو الكاتب والباحث أحمد شراك، المخلص لهم الثقافة والنشر والكتاب والإعلام بالمغرب، شراك الذي ركب موجة السوسيولوجيا مع الجيل الثالث من علماء الاجتماع المغاربة.

اختط لنفسه مسارا مختلفا عن غيره من الباحثين المغاربة في علم الاجتماع، الذين لم يخرجوا عن المدار القروي والسياسي، حيث اختار موضوعات خاصة ومخصوصة تتعلق بالثقافة، وأقام نوعا من الصلح بين السوسيولوجيا والأدب.

 لقد كان سباقا في المغرب لإصدار دراسات سوسيولوجية في المجال الثقافي، حيث يعد بحثه في الغرافيتيا أو الخربشات على الجدران، بحثا رائدا في المجال على مستوى العالم العربي.

يقارب ظاهرة الكتابة على الجدران المدرسية أو الغرافيتيا كخطاب متعدد الوسائل والحاملات والأشكال، ويتأمل في ثلاث لحظات أساسية، تتواصل فيما بينها هي: لحظة نظرية ابستيمولوجية، ركز من خلالها على الجانب المفاهيمي والإشكاليات، ولحظة وصفية تشخيصية ركز فيها على توظيف عناصر التواصل عند جاكبسون من أجل تحديد أهم معالم الوظيفة التواصلية لهذا الخطاب والإشكالات المرافقة له.

ثم لحظة تحليلية وتأويلية حاول الباحث أن يرصد من خلالها ويحلل أهم التيمات والموضوعات، التي تتناولها الغرافيتيا المدرسية، من خلال إعطاء الأولوية للسؤال الميداني ومجتمع دراسة يتكون من 24 ثانوية بمدينة فاس.

لا تقل الكتابات الأخرى للكاتب أحمد شراك أهمية عن دراسته للغرافيتيا، فهي تحقق للكاتب نوعا من التراكم الثقافي المهم حول المسألة الثقافية، التي ما زال يشتغل عليها إلى الآن.

يسائل إشكالياتها على الدوام، كما يسائل صانعيها عبر أسئلة ماكرة في أغلب الأحيان، يخرج من خلالها بخلاصات واستنتاجات عن أنواع المثقفين، ليخلص إلى التساؤل عن المثقف التأسيساتي الذي يشغله الآن. كما تشغله الثورات العربية، التي من المؤكد أنه سيخصها بكتاب سيفاجئنا جميعا، لأنه من طينة الكتاب الذين يشتغلون باستمرار، ويسكنهم هم الكتابة والمجتمع.

 هذه ميزة في الكاتب أحمد شراك، عكس بعض الكتاب المغاربة الذين يظهرون ويختفون. فهو يواصل الكتابة منذ زمن بأناة وصبر كبيرين، وفي غياب الدعم الكافي في أغلب الأحيان، ينبش في المسكوت عنه، والهامش، ويقلب كل المعادلات، طارحا كل الأسئلة المحتملة لقضايانا المجتمعية والإنسانية.

لا يجب أن ننسى أنه كان سباقا لإثارة الأزمة التي كان يتخبط فيها اتحاد كتاب المغرب وما يزال، بل إنه اقترح حلولا للخروج بالاتحاد من النفق المسدود، لكن زملاءه في المكتب التنفيذي ساعتها خذلوه، وتركوه وحيدا.

لكنه كعادته دائما لا يخشى في قول الحقيقة لومة لائم، وقد أثبتت الأيام صدق الرجل وصدقيته، ولكنه مع ذلك لم يتخل عن هذه المؤسسة، التي هجرها الكثيرون، وساهم بشكل كبير في إنجاح المؤتمر الأخير لاتحاد كتاب المغرب.

إذا كان جن الشعر والسياسة قد سكن الكاتب والمناضل أحمد شراك في بداياته، فإن حيرة السؤال الثقافي والأدبي قد تمكنت منه، وجعلت منه ذلك الباحث السوسيولوجي والكاتب المتميز، الذي يستطيع الترحال بين الأجناس الأدبية بسهولة كبيرة، ويتوسل لغة شعرية رائقة، وأسلوبا أدبيا رائعا.

كل هذا يجعل كتاباته تنفذ إلى القلب، لأنها صادقة وأصيلة، ينشد من خلالها شراك تأسيس ثقافة مغايرة بالمغرب، وأفق ثقافي حابل بالانتظارات المستقبلية الجميلة.

 فشكرا لك أستاذ أحمد شراك على هذا العطاء الجميل، الذي لن أفيه حقه مهما كتبت، وشكرا لمنظمي هذا اللقاء الاحتفائي الكريم بهذه الدعوة، التي مكنتني من الإدلاء بشهادة متواضعة في حق هذا الكاتب والصديق المتميز.

 

*على هامش تكرم الأستاذ احمد شراك سنة 2013

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *